ناتالي
قصة قصيرة – زينب الحواج
- ناتالي .. ناتالي ..
صوت متحشرج يناديها. يتردد بين ضلوعها قبل أن تلفظه أصداء كأنه قادم من غياهب حلم. فم مطبق على قهر ووجع. أتفتح عينيها أم تترك جفيها متسربلين لدقائق أخرى؟ دقائق تنفيها من أمسها القريب، من الساعات القليلة الماضية. كانت واعية في نومها. لم تكن كذلك. لم يكن نومها إلا وعدا بغد جميل. بمستقبل يرتسم فوقها ألوانا كقوس قزح بأطيافه. براقة كأحلامها. تتذكر أنها قبل أسابيع قليلة فقط بدأت عدها العكسي لعيد ميلادها السادس. اختارت فستانا ورديا لأحد شخصيات ديزني المفضلة. جاء مع الفستان تاج مرصع بقطع من الألماس، قطع وردية وأخرى فضية. مع الاثنين حذاء أبيض شكت في تناسق خرزات لماعة في حوافه العلوية. خرزات وردية أيضا. تخيلت شكل الزينة. حجم الكعكة التي تتوسطها صورة لذات الشخصية. وبطاقات الدعوة. كل شيء كان ورديا كأحلامها. تستخدم أصابع يديها ورجليها لعد الأيام. كلما نقص يوم خفق قلبها الصغير وخف جسدها الضئيل، وأحست بنفسها تحلق فوق غيوم بيضاء. عشرون. تسعة عشر. ثمانية عشر. سبعة عشر. ستة عشر.. وتوقف عدها! تداخلت أصابع يديها .. التصقت تلك التي في رجليها فاستحال معها العد. سألت أمها:
- Are these still my fingers, or has Jesus exchanged them for others?
لم تع من الجواب إلا كفا كادت تقتلع رأسها من جسدها وتطوح بها بعيدا كدمية. لم تبكِ. أخرستها المفاجأة. وتركت هم البكاء لأمها التي تقلبت سحناتها من البشاشة إلى العبوس، والتي تشكلت مع مرور الأيام إلى دموع أجاج فاضت بها مقلتيها فعكرت صفو عيشها كما تعكر الغيمة السوداء صحو السماء.
- ناتالي.. ناتالي ..
ناداها ذات الصوت. هزت صاحبته ساعدها الأيمن ففتحت عينيها قسرا. أحست بتنمل خفيف مع برودة تسربت إلى خدها الأيسر الملاصق لنافذة الطائرة المتوجه بهم إلى لبنان. "ما تكون لبنان؟" سألت نفسها كثيرا قبل أن تتسلل خلسة إلى غرفة أبويها وتخرج ألبوم صور قديم من درجٍ منسي. إذ سمعت والدها يزف خبر وجوب عودته وإياهما إلى لبنان ذات نهار أسود. قلبت صفحات الألبوم على مهل وهي تتطلع إلى الصور. صور أناس لم ترهم من قبل. تملت في بعضها. عجائز مكتنزات وشيوخ ذوو لحى طويلة جميعهم في السواد يقفون خلف بيوت من حجر. أشكالهم غريبة. ملابسهم أشد غرابة ليست كملابس أبويها أو من تراهم يوميا وهي ذاهبة إلى المدرسة أو عائدة منها. أو ممن تعرفهم في بلدها الثاني، بريطانيا حيث تقضي عطل الصيف وأعياد الميلاد. صور أخرى لرجال يسبحون في نبع سخي. ولفتيات تخبزن وآخر تشربن الشاي جالسات فوق دكاك افترشنها أمام بيوت الحجر. لم تجد شيئا يشي عن لبنان التي تبحث عنها.
قبل أسبوعين. لم يعد أبوها يحلق شاربه. حيرة دميمة استوطنت وجهه وبدأت خلافاته مع أمها تطفو، والصراخ يعلو وهي الغر لا تفقه مما يقال شيئا. عندما كث شعر شاربه. بدأ يقف أمام المرآة طويلا. يمشط جوانبه، ثم يفتل أطرافه عله يطول وينتصب. غير أنه ما يلبث أن يعود ويرتخي على جانبي فمه، فيلعن الحال والأيام.
أمها رمت كل علب ماكياجها وارتدت واقي الزهد. دموعها التي بدأت تنهمر منذ أن توقف أبوها عن حلق شاربه جفت وكذا أحست ينبوع حنانها. لأنها وهي الأم الرؤوم صارت إن نادتها تنهرها، وإن كفت عنها عاقبتها. جرتها يوم السفر كما تجر الحقيبة التي توضغ فيها فائض الحاجيات، وطلبت منها أن تنام ما أن يصعدوا الطائرة. وفعلت هربا من واقع لا خوفا من أن تنتهر.
عندما التفتت لأمها، هالها ما رأت، إذ لم تكن أمها. كانت شخصا شبيها لها. ارتعبت. ابتعدت قليلا قبل أن تزيح أمها الخرقة البيضاء التي تلف بها رأسها وجزءا من وجهها. هي أمها إذن. لكن ما هذا اللباس الغريب ومتى ارتدته. ما هذه الخرقة البيضاء التي غطت بها شعرها وجانب من وجهها. وما هذا الفستان الأسود الفضفاض الطويل؟
- غطي وجهك يا امرأة.
نهر أبوها أمها. طلب منها أن تلف الفوطة حول رأسها وقسما من وجهها. انصاعت لطلبه. أعادت الغطاء فلم يعد يظهر من وجهها سوى عينيها العسليتي اللون التين ورثتهما عنها مع أنفها الدقيق. لاذت بالصمت وتدلى رأسها بين كفين ضاويين. هو الآخر غير ملابسه. طاقية بيضاء أسدل فوقها خرقة كتلك التي تلفها أمها حول رأسها ونصف وجهها. جلباب أسود طويل محتزما بزنار أبيض عريض. ملابس كتلك التي رأتها في ألبوم الصور.
سمعت تكات متوالية بعد أن أضيئت إشارة ربط الأحزمة . ها قد أعلن الكابتن اقتراب هبوط الطائرة في مطار رفيق الحريري الدولي. انتظرت من أمها أن تربط لها الحزام كعاتها كلما سافروا إلى بريطانيا لرؤية جديها في الإجازات الطويلة وأعياد الميلاد، لكنها لم تفعل هذه المرة. ظل رأسها متأرجحا، لم يبن لها حتى طرف وجهها بسبب الفوطة التي لفتها حول شعرها ونصف وجهها. رأت عبرات نازفة تموت ما أن تسقط فوق فستانها الأسود الفضفاض. في دبي حيث عاشت، شاهدت نسوة تتلفعن بشال أسود. بعضهن يضعن النقاب. سواد يغطيهن من الرأس حتى الخمص، لكنها لم تشاهد أحدا ولو لمرة واحدة يرتدي ثياب أمها هذه.
ما الذي قلب حياتهم هكذا، فجأة بين ليلة وضحاها. تساءلت ألم يكن والداها يعيشان في حب ووئام. كانت تقول لي - ناتالي- إن والدها تزوج أمها عن حب عندما كان يدرس في بريطانيا. تزوجا زواجا مدنيا. فقد كان والدها درزيا موحدا وأمها مسيحية كاثوليكية. قالت لي ذلك اليوم انها لم تكن تعلم بأن هذا في عرف أبيها وعشيرته حرام، وزواجهما باطل . تبرأت منه عائلته وقاطعته. حلف والده ألا يرثه، وطلب من زوجته، جدتها ألا يسير في جنازته لأنه جلب لهم العار والقيل والقال. هو سليل شيوخ عقل الطائفة الدرزية يتزوج ابنه مسيحية!. أي عار جلبه له هذا الولد العاق.
كانت ناتالي تتكلم بين شهقات حادة كنصل سيف يقطع قلبها، كما قطعه يوم ذاك إلى شقفتين شقفة مع أبيها، والأخرى مع أمها. خبأّتها أمها تحت جلبابها الأسود الفضفاض الذي كلما سارت تعثرت به. خبأتها يوم أخذوها إلى المطار كي يعيدوها إلى بلدها بريطانيا.
- رحلت إلى بريطانيا ما إن وصلتم إلى بيروت؟! سألتها ..
- سفروها يا آمنة .. سفروها.
قالت ناتالي. عندما وصلوا لبنان أقلتهم سيارة جيب سوداء إلى ضيعة والدها فوق الجبل. توقفت السيارة أمام أحد البيوت الحجرية التي رأتها في ألبوم صور والدها. غصت والدتها وشهقت. كانت كمن حكم عليه بالإعدام وها هي ساعتها قد أزفت.
سائق الجيب الذي أخذهم من المطار له شاربان مفتولان ومعقوفان للأعلى. يقف عليهما الصقر، كما يقولون، يلبس سروالا وقميصا أسودين ويعتمر قلنسوة بيضاء. علمت بعدها أنه عمها. ظل صامتا طوال الرحلة التي أخذت ساعة ونيف. صامتا كمن نذر نذرا. كأنما لم تنقض من السنوات عشرا لم ير خلالها أخوه، والدها. أراد أبوها أن يقطع هذا الصمت:
- كيف الشيخة؟
- بخير.
- هل علمت بمقدمنا؟
- لم نخبرها. غير أنها تعلم كل شيء. نسيت أنها شيخة؟
صمت أبوها كأن جواب أخوه ألجمه. مرت دقائق..
- كيف مات أبوك؟
- أبوك؟!
- ..
- أقام مأدبة عشاء كبيرة حضرها شيوخ القبيلة. حتى رأس عقل الموحدين حضرها. عندما اختلى بوالدتي طلب منها أن توقظه فجرا، لقد قرر أن يصوم..
- ثم؟
- لم يستيقظ.
أنزل والدها رأسه وأخذ يبكي. بكى كثيرا وبحرقة قال:
- هل مات وهو غضبان مني؟
- هو غاضب منذ عشر سنوات. لم يتكلم أحد بعدها عنك.
- كأنني مت فعلا؟!
- ..
عندما وصلوا أراد أبوها أن يدخل على أمه، بيد أن عماتها حبسنه وحلفن ألا يدخل عليها إلا بعد أن يمهدوا لأمهم الطريق ويخبروها بأن ابنها الذي تبرأ منه والده عاد من ديار الغربة بعد أن مات الأخير. غير أنه هاج وماج. أمسك ناتالي من يدها ودخل على والدته التي كانت جالسة فوق سريرها وتتكأ على عكاز أبنوسي .غطت وجهها سريعا وصرخت:
- دخل غريب.
انكب على قدميها يقبلهما ويمسحهما بدموعه يطلب منها الصفح والغفران. أزاحته عنها بعكازها الأبنوس من صدره فارتمى على ظهره، من ثقل العار لا من قوة اللكزة. أمرت بناتها أن يأخذن الصغيرة ويغلقن الباب.
في اليوم التالي ركبوا ذات السيارة الجيب السوداء التي أخذتهم من المطار ليلة أمس. ركبوها. عمها، جدتها ووالداها. أخذتهم السيارة إلى المطار أيضا.
سافرت أمها. رأتها تبتعد في جوف المطار دون أن يتركوا لها فرصة توديعها.