جعفر الديري
اعتبر الباحث والإعلامي السوداني غسان علي عثمان، مشروع المفكر العربي المغربي د.محمد عابد الجابري، الجهد الأكبر في صالح الإجابة عن سؤال النهضة، موضحا أن الجابري أراد بناء علاقتنا بالتراث ولدعم هذا التوجه احترف العقلانية ضد فعل العادة الذهنية غير المراقبة، العادة التي تبحث في التراث بآليات تعتمد الكشف والتأويل. وهذا ما يسميه مفكرنا (بالعقل المستقيل)، العقل الطامح إلى تقديم استقالته عند كل ملمة ومشكلة، اللاجئ إلى التأويل هربا من الواقع.
وأضاف عثمان، خلال محاضرة نظمتها مؤخرا أسرة الأدباء والكتاب، تحت عنوان (نقد العقل العربي/ مشروع د.محمد عابد الجابري): إن الجابري أطل على التراث العربي بأسئلة الحاضر، "إنه البحث في الماضي لأجل المستقبل، قريب الشبه بما فعله بن رشد (520- 595 هـ= 1126-1198)، لقد أفلح الراحل بالفعل في تغيير كثير من رؤانا نحو أهمية العمل من داخل التراث، وليس من خارجه، منتقدا في ذلك محاولات الإصلاح منذ جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) الذي مارس الدين في السياسة، وتلميذه محمد عبده (1849 - 1905م) لقد كان الجابري مقتنعا في رسوخ بالوظيفة التاريخية للفكر والمفكر، ولذلك فتح جبهة في دائرة المعركة الدائرة بين الأصالة والحداثة، بين العقل والنص، واستعد لهذه المعركة بأدوات عدة، ولكن ما ميز جهده الفكري؛ هو الروح النقدية التي اتسمت بها مقالاته ومؤلفاته، لقد كان النقد هاجسا لديه، يحركه ولكن لا يملكه، فالحذر النقدي من السعي خلف كشف العيوب، هو فعل مجاني إن لم يكن زائفا، طالما هو يعتمد على الموضوع ليستقي منه الضعف، ولم ينشغل بتدبير مسائله بعيداً عنه، بل أن سعيه ارتبط بإثبات التهافت وليس كشف العيوب، وإثبات التهافت، هو سؤال الراهن ونتيجته، فباهتمام بالغ أقام الجابري مشروعه النقدي، والذي انخرط في إشكاليات التحول السياسي الوطني في نطاقه الضيق (المغرب) وفي اتساعه العربي (الوطن العربي)".
نقد العقل العربي
وحول سلسلة (نقد العقل العربي) للجابري، قال عثمان: عادة ما يشار إلى سلسلة (نقد العقل العربي) برباعيتها التكوين (1984)، والبنية (1986م)، والعقل السياسي العربي (1990م) والعقل الأخلاقي العربي (2001م) لقد بذل الجابري جهدا نظريا كبيرا، في سبيل إرساء ملامح للعقل العربي، فتتبع مسيرته، بحثا في مصادر تكوينه، ومعددا ينابيع أولية للعقل العربي، فتكوين العقل هو بحث خلف المؤثرات التي داخلت العقل العربي في ثنايا تراثه وحياته، فعهد الفتح أتاح للحضارتين الفارسية واليونانية أن تندمجا في الثقافة العربية، مستصحبتين معهما إرثهما السلطاني والتربوي، إنها أخلاق الطاعة التي انسربت داخل الثقافة العربية، ووسمت تصوراتنا السياسية.
قضية التراث
وبشأن القضية التي تشغل مؤلفات الجابري، أوضح المحاضر: "إن قضية مؤلفاته هي التراث؛ والجابري يعرفه بقوله: (التراث هو كل ما هو حاضر فينا بمعنى (التاريخ الخاص، التاريخ القومي)؛ إن حضوره هنا ماضينا الذي يسيطر على رؤيتنا للحاضر، والتراث الإنساني (ما هو حاضر فينا من ماضي غيرنا)، إن شرط التعامل مع التراث يتحدد بشرطين: الأول: الموضوعية، الثاني: المعقولية... (الموضوعية) هي جعل هذا التراث معاصرا لنفسه، الشيء الذي يقتضي فصله عنا، والمقابل فإن (المعقولية) جعله معاصرا لنا، أي إعادة وصله بنا، بقضايانا، بمشاكلنا، بمسائلنا الراهنة، إن الجابري يرى أنه طالما أننا لا نزال مرتبطين بهذا التراث ولو في بنية اللاوعي الكامنة في أفعالنا، فإننا بحاجة إلى معالجته في محيطه الخاص، المعرفي الاجتماعي التاريخي، وهذا ما يعنيه بـ(الموضوعية)، وفي الوقت ذاته جعله معاصرا لنا بنقله إلينا ليكون موضوعاً قابلا لأن نمارس فيه وبواسطته سلطة عقلانية تنتمي إلى عصرنا، إنه السؤال الملح في نصوص المفكر الجابري، وهو: كيف نتعامل مع التراث (تراثنا) بموضوعية ومعقولية؟!!. أي كيف نتحرر من سلطة التراث علينا؟ كيف نمارس نحن سلطتنا عليه؟.
وأضاف الباحث: كان الجابري يبحث عن قراءة عصرية للتراث، لا أن نترث (من تراث) العصر، ونحمله ما لا يعنيه، والمنهج المستخدم هنا، وباعترافه ليس منهجا محددا، بل إن الموضوع يحدد منهجه، فقد يتعطل منهج عن إيجاد الحلول في بيئة موضوع، وينجح بانقطاع في الآخر..! ففي كتابه الخطاب العربي المعاصر (المركز الثقافي العربي، 1982م) تحرك الجابري بخطة مسح الطاولة، لإعادة ترتيب الموضوعات، لقد تحرك بشكل أكثر تنسيقا، وتبويبا، وترتيبا، هذا بحكم خلفيته التربوية، في هذا الكتاب حرر كثيرا من المفاهيم، وتوصل إلى أن سؤال النهضة وراء انبعاث كل حركات التغيير والثورة في عالمنا العربي الإسلامي، وبعد أن مارس حفرا لغويا في أصل الكلمة (النهضة) وجذورها المعرفية، وضع هذه المشاريع النهضوية العربية متمترسة خلف نموذجين؛ الأول: الحضارة الأوروبية، والتي كانت بالنسبة لهم (دعاة النهضة) تحدياً ثقافيا (بحكم الحداثة) وعسكريا (دول تحت الاستعمار)، والنموذج الثاني: الحضارة العربية الإسلامية التي شكلت بالنسبة لرواد التغيير السند الذي لا بد منه في تأكيد الذات لمواجهة التحدي (الخطاب: ص 22)، وبين هذين النموذجين قوي إحساس بالفارق الذي أنتج (الانحطاط) الذي يعيشونه، واقع (النهضة) الذي يقدمه لهم أحد النموذجين: العربي الإسلامي في الماضي، والأوروبي في الحاضر، لقد فكروا في النهضة كواقع يجب صنعه!، ولكن هل نجحوا؟!.
الأنظمة المعرفية في الثقافة العربية
بحسب الجابري -كما ذكر المحاضر- فإن التاريخ الثقافي العربي تحكمت وتتحكم في مجراه حتى الآن، ثلاثة أنظمة معرفية، الأول: نظام البيان، ونظام العرفان، ونظام البرهان. والجابري قسم العقل العربي والعقل يعني (الفاعلية وليس العقل بنظام)، إلى ثلاثة أنظمة معرفية، يقصد الجابري بـ(البيانيين) جميع المفكرين الذين انتجتهم الحضارة العربية الإسلامية، والذين كانوا- أو ما يزالون – يصدرون في رؤاهم وطريقة تفكيرهم عن الحقل المعرفي الذي بلورته وكرسته العلوم العربية الإسلامية، إنها العلوم الاستدلالية الخالصة، والتي هي النحو والفقه والكلام والبلاغة، وأقرب ما يمكننا مدك به سيدي القارئ، الجابري قال بأن الصيغة الفقهية في عصر التدوين، أنتجت البيانيين، والفقهاء والمتكلمين، وكل هؤلاء واقعون تحت سلطة اللفظ والمعنى، واللغة هنا مستمدة من عالم الأعرابي..!.، وقد كرس هذا التيار للفردية السالبة، واتصالا بذلك تحكمت في العقل العربي صيغ أخرى هي الصيغة السلطانية، والتي تستند في مرجعيتها على المقولات الفارسية في نظم الحكم والدولة (الأدب الصغير، الأدب الكبير، كليلة ودمنة = ابن المقفع)، والمرتكزة في هديها على سلطة الفرد المستبد، وأيضا ظهرت الفلسفة العربية في المشرق بخلاف ما هي عليه في المغرب، إنها التوفيقية في الصيغة اليونانية (أفلاطونية أرسطية)، والتي دخلت إلى فضاء العرب السياسي كمصطلح غير قابل للترجمة والتوظيف. خمس هي الموروثات التي تحكم العقل الأخلاقي العربي، وأثرت فيه حتى يومنا هذا، يحددها الجابري بـ: الموروث العربي الخالص: ويتمثل في ما جمع من أشعار العرب وأخبارهم وحروبهم. الموروث الإسلامي (الخالص): نظام يستند على المرجعية الإسلامية، وعلاقته مع العقل العربي في مستوى التساكن و(الاحتواء المتبادل). الموروث الفارسي: ثقافة أجنبية ورثها الإسلام، أخذا منها أشياء ومهملا أخرى، حسب حاجته، وجاء بواسطة الكتب التي ترجمت نصيا أو بتصرف، إضافة إلى نقول وأخبار و"عهود" وعادات وآداب إلخ.. الموروث اليوناني: ثقافة أجنبية كالفارسية وينقسم إلى قسمين: ما ينتمي إلى العصر الهيلينستي (اليوناني-الروماني)، وما ينتمي إلى العصر الهيليني الإغريقي الخالص. الموروث الصوفي: ذو أصل أجنبي ومن طبيعته أنه لا يعترف بكونه أجنبياً، بل يدعي أنه "الباطن" و"الحقيقة"، المحايثان لكل دين.
الحج إلى بن رشد
وختم عثمان، محاضرته بالإشارة إلى محاضرة الجابري (مستقبل العرب في ظل النظام الدولي) ألقاها في البحرين 1992م بدعوة من نادي (العروبة)، أعلن فيها الجابري من جديد تبنيه المطلق للمشروع الإصلاحي الذي أقامه الوليد بن رشد: "ابن رشد قد أدلى قبل خوضه في مسألة العقل برأي طريف في مسألة الوجود التي كان النزاع فيها بين الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين يدور أساسا حول ما إذا كان العالم قديما أزليا، وهذا رأي الفلاسفة، أم أنه حادث مخلوق من عدم كما يقول المتكلمون.. وفي رأي ابن رشد أن العالم ككل لا يمكن أن يقال فيه إنه حادث، لأن ما نعرفه ونشاهده هو أن العالم مسرح للكون والفساد: أشياء تتكون وأخرى تفسد، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نحكم بذلك على عالم السماء، لأنه ليس موضوعا لمشاهدتنا، وبالتالي فأليق شيء بالعالم ككل، أن يقال عنه –يقول ابن رشد- لا إنه قديم ولا إنه حادث، بل إنه "دائم الحدوث"، أو إنه في"حدوث دائم". وتظل الدعوة الآن أن يظل هذا العقل "العقل الاجتماعي والتاريخي العربي" عقلا بالفعل، عقل "دائم الحدوث". فإن بناء العقل الفلسفي النقدي الذي ندعو إليه، يعني تجاوز أسس الميتافيزيقا المتعالية والمطلقة المؤسسة على مقولة الجوهر، لهما مطمح المثقف العربي الراغب في التنوير لا شرعنة اللاعقل وسلطة التراث، وفي مجتمعنا، نريد أن لا يتحول (العقل) إلى محض تأملات ومتاهات وخواطر، بل عليه الالتحام بالنقد العقلاني في أفق بلورة نظرية فلسفية جديرة بالمتابعة والمساءلة.