قصة قصيرة – عبدالله خليفة

سماء ذات مستطيلات صفراء ووهج أحمر يشع فجأة ويتوارى. البحر اختفى، أو بقيت بقع أخيرة منه، على هيئة تلال كثيرة من القار.

القبقب سامي يخرج بصعوبة من الأرض اللزجة، وينتزع عضويه المسودين شبه المهروسين من الطين، ويتطلع بأسى إلى الوراء، حيث زوجته تغرق، غير قادرة على إخراج البيض.

في هذا المدى الموحشِ من الأشياء ومن تلاشي النهار، لم يجد سامي في قلبه أي مكان للدموع. كانت صرخات سربه الموجعة ما زالت تصك سمعه. ورسائلهم إلى أحبتهم تمحوها موجات الزيت المتفحم المشوي.

ليس في المدى أي كائن بحري حي آخر، وثمة فقاقيع هائلة من الأرواح تصعد إلى السماء، بعضها ينفجر ويخلف عظاما هشة، وبعضها يمضي كدوائر من النورِ المجنح.

يزحف سامي ويتجاوز رتلا من البقايا والحشائش المعدنية، يرتفع إلى حصى الشارع الصلب، ويحدق في طوله اللامتناهي، وعرضه المخيف.

كانت العربات الصاروخية تنطلق وتطلق دخانا وترابا وتشكل قبة كبيرة من الهواء المشتعل، ويشعر بأن صدفته القوية ذات القواقع والأحجار والعظام والنقود والخواتم المفقودة من البشر تكاد تطير من فوق لحمه، لكنه يتمسك بها بقوة شديدة.

نوافذ السيارات الطائرة تحدق فيه بومضات سريعة، وتكاد العجلات أن تقترب من رصيفه، وكل اقتراب منها يسبب له عاصفة فيتمسك بالأحجارِ وهو مقتلع من الأرض وطائر في الهواء العاصف.

كل خطوة صعبة، فلم يعتد سوى الانغمار في التراب البحري، والسباحة في المياه العميقة، وفي الحروب الأخيرة لجأ إلى السفن والطائرات والغواصات الخربة، وكلما سافر، وسربه في إحداها جاءت الحيتان وقلقلت ذلك الحديد الصدئ فتحدث انفجارات هائلة ويفقد السرب الكثير من الشهداء الذين تقام على أرواحهم الطاهرة صلوات كثيفة ولكن بدون فائدة.

وفي المرة الأخيرة تشاجر مع منافسه القبقب عواد الذي أصر على اللجوء للسفنِ الحربية المحطمة واستخدام أدواتها في إعادة تصنيع أجساد القباقب وحمايتها، في حين كان رأيه هو السباحة بعيدا إلى المحيط والخروج من دائرة الخليج إلى الأبد، لكن رأيه لم يحصل على الأغلبية وبقي الجمع كله حتى انفجرت السفينة وتدفق سائل غريب من مخازنها والتهم الماء واليابسة.

يمضي بصعوبة جمة ويشعر بعطش شديد، ويحدق في حشود الناس التي بدأت تظهر بعد البرية، متدفقة في خطوط مستقيمة نحو المتاجر، والمعامل، والبنايات الكبيرة، حتى تختفي داخلها، وتخلو الشوارع إلا من السيارات المندفعة ووراءها خيط من النار والدخان.

والآن صارت مشكلته أكبر بالدخول في الأحياء حيث يتجمهر الصبية وهم يدخنون ويشربون ويتشاجرون، ولو إنه تمكن من التواري عن أنظارهم بين كتل الزبالة وحشائش البلاستك لنجا ووصل إلى هدفه المقدس.

وفي أهرام العلب وبقايا السجائر والسهرات ثمة أشياء تشرب وتؤكل كذلك. وهو كاد أن يترنح وهو يرفع إحدى هذه العلب ويدفقها في أحشائه العطشى. بل صار مزاجه أكثر رخاوة وفكر في أن يتخلى عن مهمته، وأن يجلس قرب هذه المزابل مستمتعا بسوائلها الكثيرة، ومتخليا حتى عن الأكل، وربما يجد شريكة له يواصل معها الحفاظ على جنسه العظيم، أو شريكا ينغمر معه في الحديث والشراب الوفير.

لكن مشاعر متدفقة قوية في نفسه أبت عليه أن يظل في دائرة هذه الروائح الرهيبة، وهو الذي كان يرتعش لمرأى الغابات الخضراء في الزرقة المائية، وقدم مشروعات كثيرة للحفاظ على الينابيع والفراشات البحرية.

ومضى لا يلوي على علبة أو قرطاسِ لحم، وسمع صرخات هائلة وراءه، وبدا سرب من الصبية يطارده بلا رحمة، قاذفا عليه الحصى والعلب، وهي ترن على الحصى، ويتجنبها بخفة، أو يتصدى لها بعضويه اللذين يتعرضان لألم فظيع، واندفع إليه الأشقياء بقوة، وحاصروه وهو قرب صخرة، وراحوا يمدون أيديهم الكثيرة إلى صدفته وهو ينحني أو يتراجع ويحفر تحت الصخرة قليلا ثم ينهض بسرعة وهم يكادون يطبقون عليه، وأخذوا ينتزعون بعض الأشياء من فوق ظهره، وراحوا يصرخون:

- وجدت ساعة ذهبية!

- هذه عملة لم تعد تساوي شيئا من القرن الحادي والعشرين!

- هذه قطعة أثرية من البلدان التي كانت هنا!

وكان في خطته أن يدحرجَ عليهم الصخرة الهائلة لكنهم فروا مذعورين، فرحين ببعض القذارات التي التصقت بظهره طويلا، ولم يستطع انتزاعها، وها هو الآن يشعر بنفسه خفيفة، تمضي بسهولة على الدرب الطويل.

اخترق حديقة الفيلا في شهر كامل، ثم سبح في البركة ووصل بعد سنة إلى المرافق، ورغم ذعر حشود الحسناوات والإغماءات التي أصابتهن، والرصاص الذي أُطلق عليه، لكنه لم يصب بأي أذى. وكان قد استوعب بحدة نظريات البارود الأخيرة والأصداء المتوازية.

ووجد أمامه حشدا من البنايات والطوابق، وهو الذي فكر بأن المهمة سهلة. لكنه عاد مرة أخرى للدرس، وأدرك بأن صاحبه المطلوب يوجد حيث أجمل الجميلات وكثرة المطابخ والمشاوي واتساع التلوث وكثرة المعوّقين.

وفعلا سمع صوته، وهو الذي كان يأتيهم على موجات الأثير المائي بشكل شبه يومي واعدا بإنجازات كثيرة، ويدخل هذا الصوت المعدني المؤلم كل محارة جبرا، ويأخذ من كل قوقعة رشفات حياة، ومن كلِ بقعة زيت حبة ماس، ومن كل غابة أعشاب حورية، ومن كل تلة صدف سجادة حريرية.

الحرس يملأ الأرض حوله، لكنه يتقدم واضعا سحابة من العشب الأخضر، ويدخل الفيلا وغرفة النوم الشاسعة، ببطء شديد لكن بعزم كبير.

وفوجئ الرجل القطب بالكائن المتحجر يزيح لحاف الخضرة ويتقدم نحوه بعضويه الكبيرين المخيفين، وراحت أصابعه تمتد نحو الأزرار ليملأ الدنيا بالجند، لكن المخلب الثنائي يقطع الأسلاك الملونة، وراحت الجواري يهربن ويتساقطن من فوق الشرفات إلى البركة برعب شديد، أو يتعلقن من شعورهن بالميازيب والقرون، وأتت ضجة الأحذية العسكرية عنيفة حادة، وبدأ البيت الكبير يتقلقل.

لكن القبقب أسرع إلى بطن الرجل وغيص عضويه فيه، وراح يخرج سرب السراطانات وبساتين الأزهار وحقول الفحم والزيت والشواطئ البيضاء المفتوحة للمياه والنوارس، ومناجم اللؤلؤ والجماجم.

وراحت حشود من الرجال المسلسلين والممزقين تخرج من البطن الهائلة المشقوقة وهي تركب أجزاءها وأعضاءها وخلاياها وتلملم أشعارها وحكاياتها.

وخرجت النساء من القماقم والأسرة والأصداف. فأمتلأ البحر بالموج والزبد والأجنحة وعادت الجزر وغابات المرجان والأطفال.

من مجموعة "إنهم يهزون الأرض"