عبدالله خليفة... مؤسس الرواية الإيديولوجية في البحرين
جعفر الديري
يشكل الأديب والكاتب الراحل عبدالله خليفة علامة مضيئة في المشهد الثقافي والأدبي المعاصر في مملكة البحرين. لقد تنوعت كتاباته منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، لتشمل أنواعاً أدبية وفكرية، خصوصاً في إنتاج القصة القصيرة والرواية والدراسات الفكرية.
وكانت له إسهامات متعددة كان من أبرزها تلك المحلقة في فضاء السرد. حيث تمحورت إبداعاته في كتابة الرواية التي اتسمت بالواقعية، فأصدر ما يزيد عن عشرين رواية في حياته، بداية من روايته "لحن الشتاء"، عام 1975 مرورا بروايته "الهيرات" عام 1984، ثم روايته "أغنية الماء والنار" عام 1988، وحتى روايته "خليج الأرواح الضائعة" عام 2015. أتبعت بعد رحيله بروايات: رسائل جمال عبدالناصر السرية، ثمن الروح، ألماس والأبنوس، ابن السيد، الأرض تحت الأنقاض، حورية البحر، طريق اللؤلؤ، بورتريه قصاب، مصرع أبي مسلم الخراساني، شاعر الضياء، هدهد سليمان، وخليج الأرواح الضائعة، وهي الرواية التي أصدرتها أسرة الأدباء والكتاب في عام 2015 بالتعاون مع مركز عبدالرحمن كانو الثقافي وهيئة شؤون الإعلام، حتى غدا عبدالله خليفة بحق رائداً من رواد الرواية في البحرين.
الحاضر الغائب
الكاتب والمثقف البحريني الكبير عبدالله خليفة، رحل في 21 أكتوبر 2014، "بعد مسيرة طويلة شاقة ومضنية وحافلة بالعطاء والتنوير، وإنتاجات دافقة وعميقة وثرية ومتنوعة في الفكر والفلسفة والأدب خلفها وراءه لتشهد بآثاره التي حفرها في ذاكرة الوطن بترابه ونخيله وبحره وهوائه وشخوصه وتاريخه التليد والطارف، لقد توسل عبدالله خليفة بالكتابة لِتقوم "بالانغراس في جذور الأرض لأن كل يوم هو لحظة ألم وأمل"، ولكل لحظة مضمون، وكلما كان المثقف ممتلكاً أدوات التعبير عن هذه اللحظة، ومتمكناً من الإفصاح عما تحتويه كان إنتاجه الكتابي أقدر على مقاومة الفناء والتلاشي، وأجدر بتسجيل جوهر اللحظة وتجلية خصوصيتها.
والناظر في تجربة الكتابة الروائية عند عبدالله خليفة يلاحظ تراكم النصوص وانتظام صدورها، ليكون بذلك أغزر كتاب الرواية في البحرين إنتاجاً، وأشدهم حرصاً على ممارسة فعل الكتابة، لإيمانه بأن "الكتابة تنمو فوق الأرض الحقيقية، تسحب الصواري من عند البحارة الذين غطسوهم موتى وهياكل خالية من المعنى في قعر الخليج، فتغدو الرواية الكبيرة المخططة في الرأس رواياتٍ عديدة"، تزخر بما يزخر به الواقع من صغير الشؤون وعظيمها، ذلك أن روايات عبدالله كلها مشدودة إلى الواقع شداً وملتصقة بالحياة التصاقاً، تكشف ما يمور به المجتمع من قضايا ومعضلات، وتعمد إلى فهم حركة التاريخ، ومظاهر تطوره، وما ينعكس فيه من تجاذبات وصراعات وتغيرات ثقافية واجتماعية وإيديولوجية وسياسية، وتنظر في بنية المجتمع، وتنشغل بمحركات التاريخ؛ لتقتنعَ بالتصور الاشتراكي الذي ينتصر لمقام الكادحين والعمال. فقد صرفت الروايات اهتمامها إليهم، وأخذتنا إلى الفلاحين يكدحون في حقول ملتهبة، والغواصون يجوبون بحاراً قصية، ويركبون الأهوال والآلام من أجل الكفاف والعفاف، ورحلت بنا إلى المصنع حيث العمال "مندفعون في تيّار الحديد والنار والهواء البارد واللاهب"، وتنقلت بنا بين القرية والمدينة، والماضي والحاضر، والأنا والآخر، وفتحت لنا المجال للنظر في علاقة الإنسان بالمكان والتاريخ والتحولات الفكرية والاجتماعية، وصلته بمصيره والسلطة"... (عبد الله خليفة.. عرض ونقد عن أعماله).
"الاتجاهات المثالية"
وتعد الناقدة الدكتورة ضياء عبدالله الكعبي، في دراستها "الرواية وأدلجة التاريخ... مقاربة تأويلية ثقافية لخطاب عبدالله خليفة الروائي"، المنشورة في كتاب أسرة الأدباء "في أدب عبدالله خليفة" 2014، عبدالله خليفة "مؤسساً حقيقياً للرواية الإيديولوجية في البحرين، وقد تبدت اشتغالاته الإيديولوجية منذ روايته الأولى "اللآلي" 1981، و"القرصان والمدينة" 1982، و"الهيرات" 1983، حيث هموم الطبقة الكادحة ومعاناتها من شظف العيش والصراع الدائر بين عوالم الفقراء وعوالم الأغنياء، وحتى منظوره لظهور النفط والتغييرات الاجتماعية التي حدثت في بنية المدن الخليجية كان منظورا صادرا عن رؤيته الإيديولوجية هذه. كما أن عبدالله خليفة أنجز مشروعاً فكريا موازيا لخطابه الروائي هو كتابه "الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية" بأجزائه الثلاثة، وهو مشروع قائم على مقاربة إيديولوجية معتمدة على استقراء الوعي الديني والفكري انطلاقاً من البنى الاجتماعية التي تكونت في المشرق وتأطرت من خلال الأديان: الوثني واليهودي والمسيحي والإسلامي. لقد عد الكاتب الثورة الإسلامية المحمدية التأسيسية في مكة النقلة النهضوية الكبرى في تاريخ العرب التي لم تستطع التيارات الفكرية والفقهية والفلسفية الإسلامية الوصول إلى محتواها الاجتماعي التحويلي".
"في سرديات عبدالله خليفة الكبرى عن التاريخ الإسلامي ثمة تاريخ إشكالي ملتبس وخطير أخضعه هذا الروائي لمتخيله السردي الخاضع أصلا لرؤيته الإيديولوجية بمصطلحاتها الماركسية. وكما فعل خليفة في كتابة "الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية" فإن رواياته خاضعة لهذا المنظور الفكري الحاكم لا تخرج عنه، وكأنها تطبيقات سردية له. لقد كان هم عبدالله خليفة تحميل الشخصيات إيديولوجياً وفكرياً، وجعلها صدى ناطقاً بأفكار ومحولات، ولذلك قدم لنا تاريخاً وسرداً انتقائياً قام فيه بالكثير من الطمس والحذف والإلغاء والانتقاء لتكييف الروايات التاريخية وفقاً للرؤية التي يصدر عنها. كما حافظ خليفة على تقنيات سردية واحدة في هذه الروايات جميعها كان فيها للمنولوج الداخلي السمة الغالبة في السرد. وعلى أية حال، يعد خطابه الروائي الإشكالي والخلافي هذا صوتاً جريئاً ومغامرة روائية أقدم عليها خليفة بدأب وجهد متواصل عبر بضع سنوات، وهو جهد في نظري يجب أن يضاف إلى المشاريع السردية الكبرى التي سبقته والخاصة بالتاريخ العربي الإسلامي أولاً وأخيراً إخضاعها للدرس النقدي والتأمل".
أسئلة ملتبسة
كذلك تكتب الناقدة الدكتورة انتصار قائد البناء في دراستها "مفهوم الحرية في رواية الينابيع"، للكاتب عبدالله علي خليفة": إن عبدالله علي خليفة أحد أهم كتاب الرواية في البحرين. شغلته الإديولوجيا وطموح الحرية والتقدم في كتاباته النقدية والأدبية والفكرية. وليست رواية "الينابيع" إلا قطعة فنية تعبر عن رؤاه الفكرية في قالب أدبي مكتنز بالمضامين والدلالات".
"في رواية "الينابيع" يقف القاريء أمام أسئلة تسكنه بعد أن يغادر الصفحات الأخيرة من الرواية. إنها مقاصد الكاتب المهجوس بهموم الإنسان والمجتمع، التي يورط بها القاريء معه، ويستحثه على خلق أجوبة لأسئلة لا يبين لها حل في واقع ملتبس، أبدا، بالتناقضات والانقلابات والمفاجآت. العمل الأدبي، والرواية تحديدا، ليست فسحة ومتعة فحسب. إنها انشغال واشتغال بالأفكار الإنسانية، والأسئلة المصيرية".
"يطرح الكاتب عبدالله خليفة إشكاليات الفكر التقدمي الجوهرية، وهي أسئلة تمتد في فكرنا العربي منذ زمن النهضة. أسئلة الانتصار والهزيمة... النجاح والفشل... أسئلة الإرادة والتغيير: من هو الإنسان الذي يملك حريته؟ وكيف نترجم عن حريتنا بما يخلق إمكانات التغيير في المجتمع؟ لماذا تتعثر المشاريع الوطنية في أوجها؟ لماذا يتحقق التغيير من خلال الشخصيات غير التقدمية؟ تلك الأسئلة نهضت بها بنية روائية تناسبت مع انفتاح الأسئلة على مضامين اجتماعية غارت في ردهات المجتمع غير المطروقة. وفي تجاويف النفس غير المألوفة. وكانت اللغة هي الجناح الذي طاف بعناصر السرد المختلفة ثم التحمت بها صيغة فنية تستحق دراستها من زوايا متعددة".
واقع متأزم
وفي سياق دراسته "مدخل لقراءة ينابيع عبدالله خليفة... أسئلة الصمت والقهر أو البحرين في بداية القرن العشرين"، يقول الناقد كمال الذيب: "يلتصق المشروع القصصي للقاص والروائي البحريني عبدالله خليفة فكرة ولغة، بهموم الواقع العربي، يجترح موضوعات أقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابه القصة القصيرة إلى الرواية التي أصدر منها "اللآلىء"، "الهيرات"، "أغنية الماء والنار"، "امرأة"، "الينابيع"، "الأقلف"، تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية.
ومن بين الأعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية "الينابيع" (ثلاثة أجزاء)، بالإمكان القول إن الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكاني محلي: البحرين في بداية القرن العشرين. وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقاً لها ينابيع مفتتح القرن العشرين.
الزمان والمكان متلازمان، وسواء أجاءا متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاءا غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارىء في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه، أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، ثمة عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج إلى وقفة موجزة".
"إن اختيار عبدالله خليفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي، فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا بوح الألم والقهر والأمل".