بلاغة الحكاية في أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ (3 - 3) السرد والمعنىد. محمد زيدانإذا كان السرد المكاني بناء متكاملاً من عناصر تشكل في مجملها السياق العام الذي ينبني عليه رؤية السارد فإن تحويل هذا البناء من شكله التقليدي الذي يحتفي بكل عنصر على قدر وجوده في الحكاية إلى شكل آخر يلائم المخطط السردي الذي بدوره يعد جزءا من رؤية بلاغية تستمد وجودها من مبدأين أساسيين في النص: الأول: دمج العناصر السردية / الحكائية في سياق واحد. الثاني: تحويل هذه العناصر إلى وظائف تابعة للمعنى أكثر من تبعيتها لأي عنصر في الحكاية.وبذلك يتحول البناء السردي إلى سياق يتحد مع سياق هذه العناصر ليعطي في النهاية لغة تفتح باباً واسعاً لعلاقات بلاغية لا تعتمد في تكوينها على مجرد سياق جزئي يتصل بكلمة أو جملة، إننا بصدد الانتقال من عناصر البلاغة التقليدية الصرفة التي هي جزء من التفكير اللغوي عند المتعاملين بها إلى عناصر تتصل بالسياق والمعنى ويمكن لها أن تستمد بعض رؤاها من الطروحات السردية القائمة في النصوص كما يمكن أن تعتمد على سياق البلاغة العربية وعلاقاتها المختلفة.عناصر المواقف البلاغيةعناصر المواقف البلاغية الجديدة التي أبحث عنها في النصوص الحكائية تتضام في رؤيتها مع عناصر السياق الجزئي، وتضيف لها أبعاداً أفقية تمتد داخل الدلالات وتعتبرها جزءاً لا ينفصل عن بلاغة الأداة المكونة للشكل، وهنا تظهر أدوات يمكن أن تمثل سياقاً بلاغياً للموقف الحكائي منها ما يتصل بالمكان أو الزمان أو الشخصيات.تحتاج هذه الأدوات إلى نصوص مؤسسة في رؤيتها وفي أدواتها وفي تكويناتها تكون الوظيفة فيها كما في النظرية السردية هي التي تقرر المعنى، وهذا يعني أن الأحداث أو الأفعال أهم من الأسماء والشخصيات لأن الفعل هو الذى يقرر المعنى باعتبارها العنصر الأساسي في الحكاية.وما تحتويه الوظيفة في السياق باعتبارها محدداً من محددات المعنى يمكن أن يؤدى دوراً في تشكيل صورة سردية تقوم مقام الصورة المفردة وهذه الصورة لابد وأن تؤدي دوراً داخل الإطار العام؛ فهي كلية لأنها تعبر عن مدى سردي متكامل، وهي ممتدة لأنها جزء من وجهة نظر الراوي، وهي توصل السياقات المختلفة بعضها البعض بل وتجمع تشكيلات لعناصر سردية في رؤية واحدة.تأسيس جمالي للدلالاتوهذا يعني أننا أمام تأسيس جمالي لدلالات ظلت في النقد العربي مجرد تفسير لأحداث ومعان تطرح نفسها من خلال الشخصيات ويعتبرها شراح النقد مجرد تكملة للأحداث.إن الصورة البلاغية التي تجمع أطراف المعنى الانتقالي على اللفظ ولكنها تعتبره جزءا من مكوناتها، ولذلك فهي تمثيل فكري تخييلي لعلاقات السرد تبنى أطرافها على محاور أساسية في الحكاية هذه المحاور يمكن أن تقدم تفصيلات لتشكيل هذه الصورة وفي الوقت نفسه تحدد أسس تكوينها من هذه المحاور: السياق الفكري للمعنى، السياق المادي والعلاقة التي يمكن أن تقوم على جدل بين المكونات الفردية والمادية.، السياق التخييلي لمفردات الصورة.هذه الأدوات لا يمكن أن تتضح إلا بوجودها في سياق عام يحدد لها طبيعة هذا الوجود، ففي أصداء السيرة الذاتية يطرح الراوي منظوراً حكائياً عاماً للنصوص، ولكنه داخل هذا المنظور يقدم تمثيلا حيا للصورة السردية في سياقها الجديد الخالي من تعقيدات الراوي وفي الوقت نفسه يحتفي بالزمن في صورته المزدوجة: الصورة الممتدة في الماضي، الصورة النحوية في علاقتها بالوجود الثلاثي للزمن.ففي نص رثاء: "كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدت. كان الموت مازال جديداً لا عهد لي به عابراً في الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر من. أما عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيداً بعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي فأدركت أنه تسلل في غفلة منا إلى تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات. ورأيتني صغيراً كما رأيته عملاقاً وترددت أنفاسه في جميع الحجرات فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان: لا تبق وحدك . واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنو. وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف".أبعاد الموقف السردييلاحظ أن الراوي أكسبَ الموقف السردي عددا من الأبعاد التي تحدد شكل الصورة الحكائية معتمداً على مظاهر التشكيل السردي. أولاً: يجلي الوجهين المكونين للسرد من خلال نمط من التفكير الإنساني المزدوج، 1- الوجه الظاهر مقدماً طبيعة الموت الممثلة لحركة الذات داخل سباق الموت... هل يمكن أن يبصر الناس الموت عابراً في الطريق؟ يمكن ولا يمكن، كذلك زيارة الموت مرئية وغير مرئية وهذا البعد تظهر فيه ملامح التخييل حينما يزاوج بين طبيعة الموت والعلاقة التي تحكم صلته بالناس من ناحية والفكر الراسخ عن الموت في عقيدة الناس بكل طوائفهم. 2- الموت في صورته الحسية جزء من المكون الدلالي للحياة يراه الناس عملاقا ويرون أنفسهم صغاراً، الموت تتردد أنفاسه في كل مكان، ومع كل حواس الإنسان ورغم ذلك كل الناس يعدونه بعيداً عنهم لأن الصورة المقابلة للموت (الحياة) هي الفكرة الرئيسة التي تحكم علاقة الإنسان الحي بالموت.بدا ذلك في الرغبة الجامحة التي سيطرت على الراوي والتي اتسمت بالعنف والجنون والخوف. هنا يتحرر الراوي من كل ما يجعل صورة الموت هي الرغبة في الحياة، هل هذا التحرر يقوم مقام الفعل الذي يخلو النص منه – ويؤدي المعنى باعتباره الوظيفة الوحيدة التي يقدمها السرد في سياق الانفعال بالموت.التشكيل الذي يعطي للسرد سياقه المادي والفكري، أي الصورة الملموسة والصورة العقلية للدلالة التي تؤدي دور الاستعارة في التعبير البلاغي للمفردة أو الجملة داخل السرد، وبهذا فإن المتلقي لا يبحث عن لفظة تقدم صورة بلاغية منتزعة من سياقها داخل النص ولكنه يبحث عن تشكيل دلالي يقوم هذا المقام، وفي الوقت نفسه يعطي صورة دقيقة عن وظيفة المعنى وعلاقة هذه الوظيفة باللغة.الوجه الواقعي للصورةوفي الكثير من النصوص كان الراوي يعطي للصورة وجهها الواقعي، وهو بذلك لا يريد هذا الواقع ولكنه يرمز به لأشياء قد تصادفها، إذ أن رقعة الاحتمال التي يصنعها النص تقدم صورة الدلالة في شكلها المزدوج، وتمحو الخط الفاصل بين ذاكرة تبحث الجمال في الرمز والجمال في الواقع وتوحد بينهما في تفاصيل صغيرة تبدو في سياقها العام أنها منفصلة عن بعضها البعض.ففي حكاية "عبد ربه التائه" والتي تمتد لأكثر من نص يؤسس الراوي الوجه الحقيقي للذات "عبد ربه" حينما كان يبحث عن ولد تائه منذ سبعين عاماً وقد نسي أوصافه، يجتمع مع أصحابه في كهف بالصحراء حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبه النشوات فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم بالخمارة، "ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعني الوقت وأذن لي الفراغ وإن في صحبته مسرة وفي كلامه متعة وإن استعصى على العقل أحياناً". ثم يكمل الراوي بقية الحكاية في نص التعارف: "وعندما التقت العينان".العامل المكون للسرد في الحكاية هو وجهة النظر، فكيف تتحول من مجرد رؤية مشكلة لبنية الخطاب إلى رؤية مشكلة لبلاغته! إن بحث الراوي عن الحقيقة والتي تتساوى مع المناجاة أو النشوة عند صاحب الطريقة الذي يقدم بدوره المكون المؤسسي للوظيفة "شيخ يبحث عن ولد تائه نسي أوصافه" ثم الراوي عندما سأله أن ينضم للطريقة فقال: "أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها". فقال بوضوح: "حب الدنيا محور طريقتنا وعدونا الهروب". "وشعرت بأنني أنطلق من مقام الحيرة".ثم امتداد الصورة من البعد الزمني الغائب إلى البعد المكاني الأكثر غياباً ولا يشار إليه إلا بالكهف، ولماذا الكهف؟ ثم أخبار الراوي لتفسير اللجوء للكهف، كل ذلك يجعل التفاصيل في مقام بين الرمز والواقع ويجعل الصورة سياقاً معادلاً للفكرة عندما يبحث الإنسان عن زمان ومكان وذوات يحقق بهم وجوده.وهذا ينقلنا من مادية الصورة إلى فكريتها، ومن رمزية العبارة إلى واقعيتها ، ومن إشاريتها إلى مدلولاتها . وفى هذا يحول السارد الموقف الحكائي من مجرد أفعال إلى مكونات عقلية تبحث في ذاكرة الشخصيات عن معنى لوجودها، إذ يصبح زمن الحكاية مجرد احتمال والدلالات مجرد تمثيل للأفكار.معادلات بلاغية جديدةإننا أمام معادلات بلاغية جديدة يجب أن تأخذ النصوص إلى آفاق من التخييل الأدبي وتأخذ ثقافة الناقد والمتلقي إلى رحاب العلاقة بين الظاهر والمشار إليه والمسكوت عنه في النصوص؛ حتى نتحول من البحث عن مجاز في اللفظ إلى مجاز في الفكرة، ومن تشييد علاقات جزئية إلى تشييد علاقات كلية أكثر تماسكا، ربما يكون ذلك جزء من مكونات الشخصية المعاصرة التي ضاقت بتمثيل ذاتها في مكونات منفصلة وجعلت ثورة الحياة المعاصرة مفردات الإنسان على كليات تصلح للقيمة والوظيفة الإنسانية وتتعالى على المذاهب والطائفية والذوات.