مفهوم المثقف في ضوء المتغيرات الحديثة

عبد الله زهير

المثقف ليس كائناً خارقاً، إن من ناحية الثقافة كماً وكيفاً أو من ناحية الأخلاق الفردية في تعامله مع ذاته والآخر بوصفهم أفراداً أو مجتمعات.

كثيراً ما انتابني شيء من الشك في الكيفية التي عن طريقها كانت النخبة تصور الشخصيات البارزة في مراحل ما من مراحل الحركات الأدبية، حيث كنت في بداية قراءاتي أتعرف عليها. ولا تعد الألقاب المتضخمة "عملاق الأدب، أمير الشعراء، رائد الثقافة...إلخ" سوى جزء صغير من سياسة التمجيد المبالغ فيه لشخصيات استحقت أعمالهم الأدبية والفكرية أن نحلل ما في عطاءاتها الثقافية من جديد ومتفرد ومتقدم بوضعها تحت مجاهر النقد والتمحيص والغربلة، حيث سيكون هذا العمل أفضل بكثير من الإطراء الزائد عن الحد من دون أي تفكيك نقدي.

وربما استدعت ضرورة البحث في أسباب وجذور هذه الظاهرة مسألة حاضرة تتمثل في بقاء هذه "السياسة الثقافية" على حالها حتى وقتنا الراهن، بصفتها جزءاً من صنع أخطبوط الطغيان المتغلغل في أدق تفاصيل حياتنا بأشكالها المختلفة، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.

ليس تقليلاً من شأن تلك المرحلة بما فيها من حراكات وشخصيات أدبية مهمة ومؤثرة بقدر ما هو محاولة لمساءلة البديهيات و"المسكوت عنه" في خضم تاريخ ثقافي ملتبس كما هو حال التاريخ السياسي العربي على مدار مراحله المختلفة.

في زماننا هذا آلاف من مستوى مي زيادة، وربما أعلى، ولكن عدسة النقد هناك كان يسيراً عليها اكتشاف الموهبة وما أنجزت، والتركيز عليها وتضخيمها، ليراها الجميع في كل مكان متاح. بينما الآن المساحات اتسعت لعدد كبير من المواهب. تضخم عدد المؤلفين والشعراء والروائيين، وعليك أنت أيها القارئ أن تميز الحقيقي من الزائف. أي أن مسؤولية القارئ ذات خصوصية قد تفوق مسؤولية المؤلف. وقد تلاشت أو تكاد، منذ زمن بعيد، هذه الهالة الكبيرة التي أُحيطت بطبقة المثقفين كنخبة لها اعتبارها ومكانتها في المجتمع. فثمة أكليروس ثقافي بشتى تياراته وخلفياته واتجاهاته قد تراجع دوره وأخذت دائرة المقروئية له تضيق، وهي ظاهرة قد أشبعت بحثاً وتحليلاً، منذ الكتاب البارز "أوهام النخبة" (صادر سنة 1998) للباحث والمفكر علي حرب، ومنذ ما قبل ذلك وما بعده، قد انتشرت الظواهر التي تكشف عن هذه الظاهرة واتساع مداها. من هنا أصبحت صناعة "النجوم" (إن كان ثمة مصداق لهذا الاصطلاح على أرض الواقع) على المستوى الأدبي أكثر تعقيداً مما عليه. وأصبح مصطلح "الجمهور" محل التباس وإشكال دائمين منذ عقود دون الوصول إلى أي نتيجة تذكر، سوى الحسرة على مكانة مثقف لم يتحدد دوره ولا كيف يكون المثقف مثقفاً، وبأي معنى يكون له هذه الصفة. وها هي أدبيات "موت المثقف" و"موت المؤلف"... إلخ تملأ الصحافة الثقافية، والتي وصفها الشاعر قاسم حداد ذات يوم بأنها "متواضعة الأدوات خفيفة المعرفة تكرس المصطلحات الخاطئة طوال الوقت".

وأتذكر كيف كنت أقرأ عن عصر بكامله "ستة قرون تقريبا، منذ سقوط بغداد على يد المغول 1258م إلى مرحلة ترهل الدولة العثمانية" في كتب المناهج الدراسية المفروضة على طلبة المدراس والجامعات. أتذكر جيداً كيف كان هذا العصر مختزلا بمصطلح "عصر الانحطاط". وهو مصطلح قام العديد من النُقاد والمفكرين بتفنيده وتحدي سطوته، آخرهم الناقد العراقي د.محسن جاسم الموسوي من خلال كتاب عنوانه "جمهرة الآداب في العصر الإسلامي والوسيط: البنية العربية للمعرفة" "صادر سنة 2015". وهذا يكشف رأياً معاكساً لما روجت له نخبة المثقفين والأدباء آنذاك عن تلك الفترة الأدبية المهمة من تاريخنا.

هكذا كلما اتسعت قراءاتنا وتعمقت في التفاصيل أدركنا كم كانت هذه المقولات أخطاء ثقافية شائعة، ومفتقدة لأبسط شروط الدلالة الاصطلاحية الناضجة والموضوعية. فلكل زمان مراياه وخطوطه، ويا لها من مأساة حينما نقبع بين هاتين الهاويتين السحيقتين: هاوية المكابرة وهاوية الاعتراف بالحقيقة. لندرك من بعدها أننا نتأخر دائماً في الاعتراف بأن عدساتنا لم تعد تصلح لاكتشاف ملامح هذا الزمان الجديد.

وليس لنا، على الأقل، إلا أن نقر بالحقيقة القاطعة: مفهوم المثقف وتأثيره وأدواره قد تغيرت وتحولت في ضوء متغيرات وتحولات العالم الحديث، ليس في حقول التكنولوجيا والإعلام والاتصال فحسب ولكن أيضاً في حقول الأفكار والآداب والثقافة.