غسان علي عثمان

"أبي خمر" نقيض الشيخ "استغفر الله"، هنا كذلك يأخذنا معلوف إلى صراع العلم والدين في الثقافة العربية، الدين بمعناه الفطري التجشئي في خطب الشيخ استغفر الله، بل حتى الاسم يحمل دلالة ماكرة وذكية، فكل شيء حرام طالما لا نجد له مماثلاً في التراث العربي وعوائد المسلمين، هي العقلية المتحجرة التي ترفض كل جديد ظناً بأن الأمر قد حسم، وكل شيء معد وجاهز للاستعمال، وما المصيبة التي تطرأ إلا بسبب الخروج عن "الكتالوج" المحدد لكل شيء باستقامة افتراضية مثلها سلوك وخطب الشيخ استغفر الله، أما الطبيب والدوائي أبي خمر فهو صورة بن رشدية (نسبة للوليد بن رشد) تقدم لنا طبيعة الصراع في الأندلس، بين مدرستين مثلت الأولى انعطافات الوليد بن رشد ومن سبقه من ابن طفيل وبن باجه في الأخذ بعلوم الأوائل، وبين بن مسرة وبن سبعين وبقية المتصوفة العرفانيين، هو الصراع بين العقل والنقل، بين العلم والدين، ومن ترجماته الراهنة بين العلمانية والإسلامية، وليس بالضرورة أن تتطابق هذه الفرضيات إذ نستخدمها بشكل تقريبي ونسبي للغاية.

أما في مصر فكان المماليك يلفظون آخر أنفاسهم والترك يلوحون برايات النصر الجديد، فهذا وقتهم يستلمون فيه الزمن الثقافي العربي الإسلامي من يد المماليك، وقد أبدع معلوف في تصوير حالة القاهرة وبقية المدن المصرية التي زارها بطله، فهي لا تكن كثيراً من الحب للمماليك، لكن ذلك لم يمنعهم من الإعجاب ببطولة طومان باي وهو ينافح لأجل بقاء سيرة دولته في أهم منارات الشرق في مصر. وفي تركيا التي حمل ليون معه خبراته المتراكمة يقدم لنا معلوف الإمبراطورية وهي تتمدد وتعيد بناء الشرق من جديد.

غياب فكرة الشعب

إن الانتقال الذي جرى في مصر بعد سلسلة من التحولات في الذات العربية من الفاطميين وبعدهم الأيوبيين ثم المماليك وآخرهم الأتراك بقيادة سليم الأول، تكشف لنا غياب فكرة الشعب في الثقافة العربية، إن كل ما دونه المؤرخون اتصل فقط بالجانب السلطاني، وغابت كل ملامح الأمة، أما معلوف فقد آلى على نفسه العمل مؤرخاً إنسانوياً يعلو بدرسه السردي على معنى التاريخ الرسمي للحضارة العربية، وهذا هو عمل الروائي أن يؤرخ للمخفي والمقموع واللامفكر فيه، نجد هذه الخصيصة في كل بقعة زارها معلوف بسارده العليم (حسن الوزان). غرناطة مدينة التناقضات والعجائب، تتعايش فيها الطبقات مهيمن عليها بسلاح السلطان المدعوم بالنياشين الدينية أميراً للمؤمنين تارة، وحامي حمى الإسلام والمسلمين في ثغره الأوروبي، فاس تتكاثر فوق نفسها فيها الديني المغلف بالتصوف الصموت، وفيها الطوائف تحتمي بنفسها كل بمذهبه في الظاهرة الاجتماعية، وفيها المنبوذون وقطاع الطرق وأصحاب المزاج واللهو.

أما مصر المكثفة الإنسانية، حالة خاصة في درسنا الثقافي، بلد تستطيع فيه التناقضات أن تعقد تسويتها الخاصة، لا مجال للعصبية إلا بقدر الانتماء إلى الطبقة، ولذا فقد حاربت مع طوماي باي ولم تحزن كثيراً لمقتله البطولي، إن مشهد إعدام طومان باي قد ورد في الرواية كما تقدمه الكتب التاريخية، لكن الحرفة عند معلوف تبدت في بيان الفضاء الذي جرت فيه المقتلة، يقول: "تعالت آلاف الغمغمات وكأنها دوي يزداد زلزلة في كل لحظة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.." ... وكان لفظ "آمين صرخة ممدودة خانقة ثائرة، ثم لا شيء، وران الصمت، وبدا العثمانيون أنفسهم مشدوهين، وكأن طومان باي هو الذي حركهم بقوله: "أيها الجلاد، قم بعملك!"- الرواية صفحة 347.

الوزان يشي بنفسه

حسن الوزان هو من وشى بنفسه واستسلم للاختطاف، فصديقه عباد الذي كان يتولى نقله إلى تونس مع نور زوجته وابنها بايزيد، فإن معلوف أراد أن يعيد علينا درس الاستشراق لإدوارد سعيد، فالشرق ينبغي له ألا يغادر الإطار، وأن يظل مكمن الطرافة والغرائب، هو البازار المفتوح لكل عجيبة ولكل اختلاف، هنا يمسك معلوف بذكاء شديد بأداته السردية، فبعد استراحة قصيرة بين الصديقين وهما يهمان بالسفر، تحدث عملية الاختطاف: "وما هي إلا ساعة حتى خرجنا بدورنا مرحين شبعانين سعيدين بالمشي على طول الشاطئ فوق الرمل المبلول وتحت قمر متألق. وما كدنا نجتاز ببضعة من أكواخ الصيادين حتى رأينا فجأة ظلالاً تمتد أمامنا.." الرواية صفحة 357 – وهنا جرت عملية الاختطاف، إن دلالة اختطاف الوزان تحمل في طياتها كذلك تجليات صراع الهوية، هذا العربي غير العربي، المسلم يذهب به إلى معقل الحضارة الغربية ليلعب دوراً جديداً، سفيراً تارة ومحتفى به بحنو أبوي عند البابا، ينقل لنا من هناك تناقضات الحضارة الغربية وهي تأكل نفسها كذلك بسبب من حروب دينية عمادها اختلاف المذهب، فلوثر الثائر في ألمانيا يسعى لتهديم المعبد من جديد بدعوى الهرطقة والخروج عن جادة السيد المسيح في تقدير لوثر المصلح الفانتازي، والممثل في تلاميذه الذي درسوا على يد الوزان نفسه. روما تحتضر ومطلوب من ساردنا العليم أن يقدم خدماته هذه المرة من الضفة الأخرى، هذه السفارات المتعددة لحسن الوزان يربط بينها شيء واحد هو واقعيته الشديدة مع وظائفية واحدة لا تحمل أي هم رسالي، وهكذا هو الإنسان الكوني يعمل في ظل فضاء غير محدود، وبإمكانات تترقب الطارئ من النجاحات والمؤقت فيها.

ويتم اختبار الوزان، فالرجل كلما ولى وجهه وقلبه احتقب زمناً ثقافياً كاملاً أمانة في عنقه ولم يخيب ظن أحد، ألم تكن نهاية الأتراك المتوقعة بيد بايزيد، يقول: "سوف يزعزع بايزيد بن علاء الدين عرش العثمانيين في يوم من الأيام. فهو وحده القادر، بوصفه آخر الأحياء من سلالته، على إثارة قبائل الأناضول، وهو وحده القادر أن يجمع حوله المماليك الجراكسة والصفويين الفرس للقضاء على السلطان التركي المعظم. هو وحده. إلا إذا خنقه جواسيس السلطان سليم"- الرواية صفحة 312.

من منفى إلى آخر هي روح هذه الرحلة الوزانية، فحسن بن محمد الوزان يعود من جديد إلى جذوره المصنوعة، ولكن هذه المرة في معيته مقابله الهوياتي ابنه، وفي وصيته له تنتهي الرحلة المعقدة والمجدولة في رأس الصراع الهوياتي ورمزه المؤنسن حسن الوزان، يقول له "هاك خلاصة المعنى من المعركة الوجودية التي خضتها، وأنت بني تحمل نقيضي الذي أتصالح معه ببقايا واقعيتي التي أحملها سلاحاً ضد الأزمات والمكاره، "مرة جديدة يا بني يحملني هذا البحر الشاهد على أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول، لقد كنت في روما "ابن الإفريقي"، وسوف تكون في إفريقية "ابن الرومي"، وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك، فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك" الرواية صفحة 451، هكذا كانت نهاية الإنسان الكوني حسن بن محمد الوزان.

رحلة العقل العربي

إن رحلة ليون الإفريقي هي رحلة العقل العربي بتناقضاته وإشكالياته، أزماته وانكساراته، واقعيته وسحريته، رحلة هي التعبير الأسمى هي صراع الهوية في الثقافة العربية، صراع بدأ منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها جيوش المسلمين تفتح العالم وتعيد بنائه، تركبه وفق إرادات متعارضة، والوزان صاحبنا خاض كل حروبه السلمية وغيرها، بسلاح واحد وهو السرد للذات.

إن مساحة التخييل الذاتي في هذا العمل واسعة ومثيرة للإعجاب حقيقة، إذ لم يقع أمين معلوف في فخ الكتابة التاريخية بنمطها المباشر، بل إن شغله السردي هو كتابة فوق الكتابة، إذ اتخذ من اللحظة التاريخية المشتغل عليها في كثير من المرويات، اتخذها حالة جديدة، لقد استطاع أمين معلوف أن يحل المشكلة القائمة، المشكل النقدي الكلاسيكي في كثيره حول علاقة الرواية بالأدب، إنه التخييل الذي يهتم بحياة الناس العاديين، فالعلاقة التي ابتناها أمين معلوف، وقام بتركيبها بشكل سردي فريد تجيب عن التساؤل، وإجابته واضحة وهي "أن الأدب لا يعدو كونه حالة كتابة فوق الكتابة".