نص - فريد رمضان



إني سمعت رسول اللّه يقول: إن أول ما خلق اللّه عز وجل خلق القلم فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد.



(تاريخ الطبري)

هذا أبونا آدم باع ربه بكف من حنطة



(الثعالبي)



سبحان من أضاء لي هذا المشهد:



بعد أن كان كل شيء راكدا، صامتا لسنين بعيدة، ينبثق الشعاع الأول، النور المتحرك من ثنايا التراب، حيث الخطوات تقترب، تلامس أجزاءها، رافعة صروحها، نحو شفق الجهات. في هذه العتمة ينفلت الضوء الأول طاغيا، يقبض المكان بخصلاته المشعة، حيث الأرض هي الأرض وتلد الأسماء، حيث انبثاق الهتاف الأول في السديم، يتخلل أجنحة الصلصال، لفيفا نابضا بالعذوبة والعذاب، لذات الغشاء الطري، المكتمل في الغياب، المستعيد تروضه ضد مزامير العهود، والبراكين.



أفق، وياله، يغري بما يأتي من العتمة، من الروح الخلد. دعوة للتلاقي، للاعتراف أمام فصاحة التراتيل. هنا يمكنك أن تراها وهي تزحف نحو بعضها، تتلامس بنعومة ورفق. صلصال ينسجم، يتلاحم في صعوده الهادئ، فتتولد الأشياء التي لا اسم لها سوى شؤون العظمة.



كتل تبذل إغراءها في حضور الروح الباسلة.



حين يخرجون تخرج الكلمة الأولى، ليهتز الماء الراكد، لتهتز السماء المظلمة، ليتلاشى الصمت في حضور الهسهسات المطهرة. تخرج لتقول الحكاية، وما تبقى منها. ليس ثمة حكاية بالمعنى العريق، بل هي انبلاجات بدائية ترفع السكون ليقظة حية تحدثها الأرض في التحام الصلصال. في تشكل الكتل المتمايلة، الهلامية، الزئبقية في نشيدها البكر.



يا من قلتم ..



تعالوا وأشهدوا



هوذا الوجد ينبثق



يحمل همساته أنينا مرتفعا. كل جزء يطوي حركاته، ليصعد النور إلى السماء ويضيئها. فمن قال منكم:



يا لهذا الوعاء المتفتح من الطين، لا سلطة عليه.. و لا شريك له.



يا من قلتم..



تعالوا وأشهدوا



فخلقنا سيكتمل.



يخرج من صلصاله البكر، ويكون الخلود، الوجد النهاري والنشيد. هذا الارتطام الأول، الحركة الأولى، فاشهدوا ظلها على حنان الأرض الرطبة، المشتاقة للقاء الروح، حينها يضحي الكون ملتقى الولادات:



رأس يستدير نحو أفقه الآسر فيرى نوره يضيء يقين الكون. زند مطرز بعضلات فتية تخدش الأرض بحركتها المباغتة. ملامح أصابع تختزل نعومتها وهي تحتضن التراب. صدر رخامي تضيئه الأثداء كفنائر الغيم، حتي يخيل لكم يا من قلتم بأن هذا الخمري الطالع من الماء الراكد، والطين الرائق سينطق كلمته الأولى، سيحتضن صوته البعيد وينثر في الأرجاء صخبا يلامس الأثير. سينهض من تحجره شاهقا، عظيما، يواجه السديم بنبضه المشع وضوئه الباهر.



ها هو الكون يستأنف جماله الغائب في اندفاع نابض، يلتمس شهوته تحت شجرة البهاء، يسحب خطواته نحو طعم الأعشاب ورائحة الفواكه التي خاصمتها الأغصان، داعبتها السحالي بأناشيدها.



هما جسدان يتخلقان. تبسط السهول امتدادها المترف، تفتح نوافذها، فيستدل عليهما الليل الناصع، الأكثر قدرة على: إشعال الكون بمرح الطفولة. فسبحان من أضاء لي هذا المشهد، أقول: الكتابة.