(750 كلمة)
د. عبدالقادر فيدوح
باقترابنا من القرن السابع الذي عاش فيه حازم القرطاجني نكون قد أدركنا اهتمام النقاد في هذه الحقبة الزمنية، بسر صناعة النظم وقد اعتبره الدكتور صفوت عبد الله الخطيب.. (نظرية حازم القرطاجني النقدية في ضوء التأثيرات اليونانية) الوحيد من بين المتأثرين بأرسطو الذي نظر إلى العبارة الشعرية من زاوية جمالية ونقدية تعبر عن قيمتها في البناء الشعري، ويبدو ذلك في تحديده لمنهج دراستها معتمداً قوله: " يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه، ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيئته ودلالته، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها، ومن جهة مواقعها من النفوس من جهة هيئاتها ودلالاتها على ما هو خارج الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها، وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس".. (حازم القرطاجني، منهاج البلغاء).
اقتراب من طروحات أرسطو
وفي هذا يقترب من طروحات أرسطو في أهمية شكل المضمون في الاستخدام الحسي لأبنية العبارة الموزونة وهو ما تأثر به حازم بشكل مفصل ودقيق اعتباراً من النظرة الكلية التي تحدد مسار الحركة الإبداعية وذلك بقوله: "ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع فيعرف حال ما خفيت به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما يلائم واجتناب ما ينافر".. (المنهاج).
التحكم في متعة الأشياء المتجانسة
إن سبيل تحقيق الجمال في منظور حازم مبعثه قدرة التحكم في المتعة التي تخلقها الأشياء المتجانسة، وفي التناسب والتلاؤم تظهر قيمة الجوهر الفني في تنظيم شكل وتناسق محتواه وهذا في حد ذاته ينطوي على سلوكات النشاط البشري ومن هنا يتحدد مكمن النشاط الجمالي للمخيلة الإبداعية التي تبرهن على نفسها من خلال إيقاع الكون. فالتناسب –ومن هذا المنظور- هو القوة الخالقة للتصور في جميع النشاطات الاجتماعية والفنية، أو قل في ذلك إنه المنظور الذي يرى أن الكون انسجام في جميع مجالاته بدءاً من مقول الكلام إلى ما يخلقه دوران الأرض في تنظيم حرثها. وهكذا نصل مع حازم إلى كون الانسجام صفة تدخل عالم التوحد بين الأشياء، التي تحددها جميع العناصر الجمالية، معتبراً في ذلك نبض الكلمة إشارة أولية لبدء النشاط التشكيلي في ترنيماته وتحسين استدارة نطقها لأنها تفيض بحركة تناسب حركة خطوات النفس الوثابة في تموجاتها ونحن مأخوذون بسحر الكلمة في انسجامها الخلاق وهو ما عبر عنه حازم بقوله: "ومن ذلك حسن التأليف وتلاؤمه والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء: منها أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها وائتلاف جملة كلمة مع جملة كلمة تلاصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما. ومنها، ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال، فتكون الواحدة في نهاية الاعتدال والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى، مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها ومنها أن تكون كل كلمة قوية كالطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها".
التمعن في اختيار النطق
إن حازماً هنا يحث المبدع والفنان على وجه العموم على التمعن في اختيار النطق المناسب لفضيلة الكلام على اعتبار أن ذلك أولى مراحل النشاط الجمالي، وفي ذلك تمرس وترويض للقول على حسن اختيار التوزيع. ومن هنا تكمن قيمة طلب بالشيء وفق الحاجة وإعطاء الأمر ما يستحقه، وبما تقتضيه المكانة اللائقة به "والواقع أن أزهد الأعمال –في نظرنا- له صلة كبرى بالجمال، فالشيء الواحد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال، أو تنضح بالقبح، ونحن نرى أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان وفي عمله وفي السياسة التي يرسمها لنفسه".. (مالك بن نبي، شروط النهضة).
بناء نقدي لأسس الجمال
وفي هذا إشارة تطوير سلوكات البشرية بفضل تمكنها من تحقيق الانسجام وقدرتها على التحكم في نشاط الوعي الإنساني وتماثل نبض الكون وفق جوهر ما يطمح إلى تحقيقه هذا الإنسان في حقيقته النسبية "وهكذا يتسم موقف حازم بالإيجابية في تأثره الجلي بالفلاسفة السابقين عليه في هذه القضية فهو لا يكتفي فقط كما قيل- بتقرير- "أن الجمال موضوعي وأن له أسباباً تلتمس في العبارة الأدبية وأسراراً تجعلها جميلة وأن من الممكن معرفة هذه الأسباب والاهتداء إلى هذه الأسرار والتعليل لها" أقول لا يكتفي حازم بتقرير ذلك ولكنه يضع بناء نقدياً لهذه الأسس ومنهجاً للأخذ بها وتفسيراً لقيمتها الفنية والنفسية، وهذا يبرر القول بإيجابية الموقف الذي وقفه الرجل في تأثره بالفكر الفلسفي اليوناني حيث استقل التنظير في تطوير ما تداوله النقد العربي".. (نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية في ضوء التأثيرات اليونانية).