(500 كلمة)

د. عباس القصاب

في محاضرته القيمة في مجلس الدوي بالمحرق الجميلة استعرض الباحث البحريني في التاريخ والآثار الأستاذ محمود عبدالصاحب البقلاوة تاريخ الحضارة الدلمونية من خلال تسليط الضوء على أبرز مميزاتها المتمثلة في اعتبارها الديني عند الأقدمين وخصوصاً علاقتها بحضارة السومريين بوادي الرافدين، إذ تعد الأرض المقدسة، وجزيرة سر الخلود.

هناك تعبير لطيف أتى به الباحث باعتبار أرض دلمون سرة الأرض، وهذا معنى عميق جداً يبين مكانتها بين الحضارات القديمة الكبرى، وتناول بعد ذلك أهمية معبد باربار وكيف تم اكتشافه من قبل البعثة الدنماركية التي بذلت جهوداً في تنقيبها للآثار، وتوصلها إلى بعض الآثار المهمة كالمعبد وما يجاوره من نبع العين المقدسة المتعلق بعبادة آلهة المياه العذبة، وحظائر القرابين، وغيرها من المتعلقات بالآلهة.

ومن أبرز اكتشافات تلك البعثة رأس الثور الدلموني الذي يعد فريداً بين كل تشكيلات رؤوس الثيران في الحضارات القديمة سواء في وادي الرافدين، أو في الهند، واليونان، وغيرها؛ لما يتفرد به من طريقة تشكيل قرني الثور الملتويين إلى الأعلى بطرقة فنية إبداعية، وتدخل في صناعة هذا الرأس إحدى عشرة مادة حافظت على بقائه لما يزيد عن أربعة آلاف وخمسمائة سنة تقريبا

من رأس الثور الدلموني انطلق الباحث إلى موضوعة القيثارة التي وجدت رموزها في الأختام الدلمونية الموجودة في المعابد وفي جزيرة فيلكا الكويتية، وعرض الباحث صوراً لمجموعة من الأختام المنقوش على بعضها رسوم لقيثارة وعازفها، وما أسماها المحاضر الثنائيات المتلازمة كالشمس والقمر، الرجل والمرأة، وهكذا....

وقدّم أنموذجاً مجسماً ملموساً للقيثارة الدلمونية الوترية، استوحاه من تلك الأختام، والنصوص الأدبية والتجارية المسمارية، ووجود قيثارات أخرى مشابهة في المتاحف العالمية، ولكن تلك القيثارة متقدمة جداً في شكلها وصناعتها حيث بها أحد عشر وتراً، مما يدل على وجود حس فني جمالي مرهف لدى الإنسان الدلموني القديم، وفي طرفها رأس الثور الدلموني الأسطوري، مما يعطيها مسحة جمالية راقية، مستعرضاً الصلة الوثيقة بين الحضارة الدلمونية والسومرية، وأهمية الحضارة الدلمونية الغنية بالآثار وخصوصاً في معبدي باربار وسار، والتي تشبه كثيراً ما في حضارة وادي الرافدين.

إن وجود نلك القيثارة حسب ما أرى لا بد وأن يفتح بابا أمام باحثي التاريخ والآثار في إثبات أو نفي قاطع بوجود مسرح في معبد باربار حسب رأي بعض الباحثين، إذ توجد ساحة أو قاعة كبيرة في المعبد، ولكن ليس هناك دليل مادي يثبت أنها مسرح، ولارتباط المسرح في نشأته بالعبادة والآلهة في الحضارة اليونانية والأغريقية، فربما تكون هناك طقوس تعبدية وحركات معينة جماعية يؤديها الناس في المعبد باستماعهم عزف تلك القيثارة، مع حوارات وترنيمات محددة تشبه أو تقترب ولو قليلاً بالمسرح القديم.

يمتلك الأستاذ محمود معلومات وفيرة وغزيرة في تخصصه المفضل حيث تجده حاضراً في الإجابة عن أي سؤال بثقة وتفصيل ودقة، وهو بحق عاشق الآثار والتراث، وقد أهداني مشكوراً كتابين من مؤلفاته في هذه الأمسية العلمية التاريخية التي تؤصل العمق الحضاري لبحريننا الحبيبة وتبيان مدى حضارية الإنسان البحريني المرهف الذي عاش متواصلاً مع بقية الحضارات العريقة.

لقد أدخل في قلوب الحاضرين الغبن والحسرة في قوله إن هناك الآلاف من المواقع الأثرية تم هدمها لسطوة المعمار الحديث، ووفقاً لمعالي الشيخة مي آل خليفة بأن ما تم تنقيبه من آثار هو 5 % وهذا رقم مخيف حقاً، حيث أخشى أن تكون منازلنا وشوارعنا تقع على مدن ومستوطنات أثرية مهمة نخسرها جميعا