د. جواهر شاهين المضحكي
الرئيس التنفيذي لهيئة جودة التعليم والتدريب
في عالمنا المتسارع، تعلم الدول الناهضة جيداً، أن التغيير الحتمي والمعقد والمتسارع، لا يمكن إيقافه إلا بتملك المعلومة، وقوة الاقتصاد، مع ضرورة النجاح في تمكين الأكفأ إدارياً، والأمهر فنياً؛ لضمان تحقيق الجودة والتميز.. هذا التغيير تتقاسمه المرأة الآن مع الرجل، بل أحياناً كثيرةً تتفوق عليه في الأداء والابتكار؛ ولعل اكتشاف مدام كوري لعنصرين جديدين قبل غيرها من الرجال خاصة في المجالين الكيميائي والفزيائي لدليل على ذلك.
وإذا ما عاد بنا التاريخ إلى عصر الثورة الصناعية، فإن التوجه الاقتصادي إلى التصنيع الميكانيكي عن طريق تسيير المركبات بالمياه والبخار، واختراع وسائله وآلياته، ثم التحول إلى عملية التصنيع الكهربائي الشامل باستخدام الكهرباء، وابتكار محركات الاحتراق، ونشوء علوم الطاقة الحرارية والكهربائية في بدايات الثورة الصناعية الثانية قد أكد أن الثورة المعرفية خاصة في التعليم العالي ستؤدي حتماً إلى بزوغ ثورة تكنولوجية في أواخر القرن العشرين؛ الأمر الذي تحقق بظهور الإنترنت، وغيره من وسائل التكنولوجيا الحديثة.
هذا التحول السريع الذي تمثل في عمليات الأتمتة، وظهور الروبوتات، وغزو الفضاء؛ جعلنا نعيش ثورة صناعية رابعة انتفضت على كل شيء، وأحدثت تطوراً هائلاً؛ لتحويل الأنظمة الإلكترونية الملموسة إلى إنتاج مادي وافتراضي، لا شك أن المرأة شاركت فيه، وشغلت حيزاً كبيراً في إنجازه، والإبداع فيه بقدرات خلاقة، جسدت ملامحه فيما نشاهده الآن من تواجدها في المصانع والشركات الكبرى على مستوى العالم.
إن العالم اليوم مقبل على ثورة صناعية رابعة، هي "نتاج التكامل والتأثيرات المركبة المتعددة "للتقنيات الدليلية" مثل: "الذكاء الاصطناعي"، والتقنيات الحيوية، والنانو تكنولوجي، والطاقة الكونية. "Penprase,2018"؛ تلك الثورة التكنولوجية هي التي سوف تشكل مستقبل التعليم، والجنس "المرأة والرجل"، والعمل؛ لأنها ستتطلب "التسريع بإعادة تشكيل مهارات القوى العاملة". "المصدر السابق"
لقد تخطت الثورة الصناعية الرابعة المتوقع إلى المستقبل، لتصنع عالماً صناعياً وتجارياً كونياً هائلاً قد لا تجد له بنيان ولا مكان.
فها هو "علي بابا قروب"، أكبر متجر لبيع السلع في العالم لا يملك مخازن. و"سكاي بي" التي تعتبر أكبر شركات الاتصال في العالم لا تمتلك شبكة اتصال.
وقس على ذلك شركات عالمية وكونية هائلة في حجمها واستثماراتها، أرباحها بالمليارات، مثل "أوبر"، و"نتفلكس" وغيرهما الكثير من إمبراطوريات الثروات والماركات التجارية في العالم، لا تمتلك مواداً ولا أبنية عينية، لأن جميع إنتاجاتها في عالم إلكتروني افتراضي ضخم، لا يمكن احتوائه بمكان أو زمان.
إذاً هنا نحن نتحدث عن ثورة ضخمة، اللاعبون فيها هم الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والروبوت الصناعي، والطباعة الثلاثية الأبعاد، وواقع افتراضي لا يمكن تخيله، فيها من الترابط والبيانات والتكامل والإبداع والتحول.
الشيء المخيف هو أن الأنظمة والمعدات الذكية باتت هي التي تتحكم في العالم، في السلم وفي الحرب.
كل ذلك يستدعي الذاكرة لتطرح هذا السؤال: ألا يستحق ما سبق من تطورات متسارعة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أن ينعكس على تغييرات تطور التعليم وأنماط الجامعات المختلفة واتجاهاتها نحو الجودة؟
لقد باتت مهارات القرن الحادي والعشرين لازمة لأي تحول رقمي وتقني، لأنها الدعامات الحقيقية للولوج إلى عالم المعرفة والتطور الرقمي والتقني.
فما بين المواطنة المحلية والعالمية، والتواصل والعمل الجماعي، والإبداع وحل المشكلات، والريادة والمبادرة، هناك الثقافة التكنولوجية والتفكير الناقد والتمكن اللغوي والقيادة وصنع القرار. جميعها تندرج ضمن عدد كبير من المهارات التي باتت مطلوبة لدى سوق العمل، وباتت معايير أساسية فيه. إن مجتمعاتنا باتت بحاجة ملحة إلى جامعة المستقبل، ذات التعليم المختلف والهيكل التنظيمي المختلف، والذي يسعى بكل جدية لتحقيق ما تكلمنا عنه بإسهاب فيما سبق.
وإذا كنا نتحدث هنا عن التعليم العالي ودوره في نقل المجتمع إلى عالم المعرفة وعلوم المستقبل، فإنه من الجميل أن نستذكر الريادة البحرينية إقليمياً في انطلاق التعليم النظامي في مملكة البحرين، والذي انطلق أولاً في مدرسة الهداية الخليفية للبنين في العام ١٩١٩، كما انطلق بعد ذلك للبنات في العام ١٩٢٨.
كما يسجل تاريخ التعليم في مملكة البحرين، أن أول دفعة للخريجات البحرينيات من حملة شهادة الثانوية العامة كانت ٥ طالبات، وذلك في العام ١٩٥٦، حيث تم ابتعاث اثنتين منهن لإكمال الدراسة الجامعية في كلية بيروت للبنات، في حين سبقتها في العام ١٩٣٧، أول بعثة بحرينية إلى الخارج.
وفي العام ١٩٦٦، تم تأسيس المعهد العالي للمعلمين، وبعده بعام كان تأسيس المعهد العالي للمعلمات. وفي العام ١٩٦٨، تأسست كلية الخليج للتكنولوجيا "كلية الخليج الصناعية"، وبعدها بعشر سنوات تقريباً، تم دمج كليتي المعلمين والمعلمات لتؤسس الكلية الجامعية للعلوم والآداب والتربية "١٩٧٨"، التي تم دمجها لاحقاً بكلية الخليج للتكنولوجيا؛ لتنطلق بهما جامعة البحرين في العام ١٩٨٦.
هذا التطور في الفكر التعليمي والمعرفي في المملكة، ومساقات النهضة التنموية تدرج لاحقاً حتى افتتاح أول جامعة خاصة في العام ٢٠٠١، ليصدر في العام 2005 قانون لتنظيم التعليم العالي، حيث أُسِّسَ على إثره مجلس التعليم العالي في العام ٢٠٠٧، ثم مبادرة بوليتكنك البحرين في العام 2008، ليتمم بإنشاء كلية البحرين للمعلمين في نفس العام، ثم هيئة جودة التعليم والتدريب في نفس العام أيضاً مبادرات أعادت رسم خارطة التعليم وجودة التعليم في مملكتنا الغالية، كان العنصر المؤثر في متابعة برامجها وتوجيهها، المجلس الأعلى لتطوير التعليم والتدريب، برئاسة سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، نائب رئيس مجلس الوزراء، وبرعاية متواصلة من سمو الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، وسمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء حفظهما الله ورعاهما
اليوم، وفي ظل هذا التطور المتلاحق في مفهوم التعليم العالي وتنوع غاياته، بات لدينا جامعتان حكوميتان، و١٢ جامعة خاصة، مما يعني أن نظرتنا المستقبلية إلى التعليم العالي يجب أن تكون متقدمة وفاعلة، ومغايرة لما كانت عليه فيما مضى، بل يجب أن تكون ديناميكية باستمرار في متغيرات برامجها الأكاديمية ورؤي قيادتها الاستراتيجية، ورصدها دوماً مجريات ومتطلبات سوق العمل؛ حتى تؤتي ثمارها، كما أن هذه التفاعلات لا تقتصر فقط على الدور الحكومي، بل يشارك فيها القطاع الخاص بدور فعال.
مما سبق، يتبين أن إقبال المرأة على التعليم لن يتوقف على الدراسة الجامعية أو الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي فقط، بل يتخطاه إلى مرحلة الدراسات العليا؛ وهو ما يستدعي أن نذكر أنفسنا بالدراسات الحديثة التي تشير إلى أن ٦٠٪ من الوظائف الحالية في سوق العمل لن تكون موجودة مستقبلاً، وهو ما يستدعي بدء مرحلة جديدة وجدية من التأسيس النوعي لدخول المرأة بقوة ميدان الدراسات العليا؛ مرحلة عنوانها الجامعات الذكية، المبنية على التكنولوجيا في بيئتها التعليمية، والتي تعتمد المعرفةُ فيها على حل المشكلات، والبحث، والاستقصاء، كما تعمل على تنمية قيم متعددة مثل الاعتماد على النفس، والاحترام، والحرية، والعدالة، والشجاعة، والعقلانية.
لا يمكن تحقيق وبناء ما سبق من طموح وآمال، إلا بتحولات حقيقية يجب أن تتمكن من أنظمتنا التعليمية، وبخاصة التعليم العالي، ومؤسساته المختلفة، تقوم بالتركيز على المتعلم والمتعلمة، وتوفير الفرص لها وفقاً لقدراتهما، وإمكانياتهما، وزيادة فرص الإسهامات من قبل مؤسسات المجتمع، مع تقليص الفجوة بين المخرجات وسوق العمل، وتعزيز قيم الديموقراطية، والحقوق المتساوية؛ بنشر المساواة في المجتمع، وأخيراً عبر رفع حس المسؤولية الفردية عن التعلم عند أفراد المجتمع جميعاً.