إن من مقاصد الإسلام حب الوطن، وليس حب الوطن مجرد ذكرى طفولية، بل هو أجل وأعظم، وإن الشارع الحكيم قد أتى بكل ما يصلح المجتمعات، ويدعو إلى نشر الخيرات وترك المنكرات؛ قال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون".ومن جملة الخير والمعروف الذي حثت عليه الشريعة تنمية روح الانتماء للبلد الذي نشأ فيه الإنسان وترعرع، فلا يتحقق التأثير الحقيقي في المجتمعات إلا بغرس روح الانتماء، فحب الوطن قد اجتمع فيه باعث الفطرة والدين والعقل. فالإنسان يجد في نفسه ضرورة حب وطنه الذي منحه الأمن والاستقراروأخذ منه أنواعاً من النعم من أعظمها إقامة الدين والصحة في البدن وحيازة أنواع الخيرات الدنيويةوليس الوطن أرضاً وسماءً فقط بل الوطن في حقيقته هو الناس الذين أحببت المكان لأجلهم، فحب الوطن هو المواطنة ولقد علمنا الإسلام أننا لن نكون مهتمين بالوطن الكبير دون أن نهتم بالوطن الصغير. ونبينا عليه الصلاة والسلام حين هاجر إلى المدينة دعا ربه أن يحبب إليه هذا الوطن الجديد فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» كما في الصحيحين. وما من نبي إلا وأرسله الله بلسان قومه ليبين لهم.وقد ذكر الله لفظ الأخوة عند عرضه قصص الأنبياء في القراّن الكريم قال تعالى: "وإلى عاد أخاهم هوداً"، "وإلى ثمود أخاهم صالحاً"، "وإلى مدين أخاهم شعيباً"، وليست أخوة النسب ولا القبيلة، بل إخوة لهم في الوطن. قال الطاهر بن عاشور في قوله تعالى: "إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون"، قال: "وجعل لوطاً أخاً لقومه ولم يكن من نسبهم وإنما كان نزيلاً فيهم إذ كان قوم لوط من أهل فلسطين من الكنعانيين وكان لوط عبرانيًا وهو ابن أخي إبراهيم ولكن لما استوطن بلادهم وعاشرهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخاً".ومن أبرز الآيات التي تقرر حب الأوطان وأنه من مقاصد الإسلام قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر".دعا هذه الدعوات باستتباب الأمن في الأرض والبلاد مع النهل من الخيرات، فهذه الآية نص في استحباب الدعاء للأوطان، قال الطاهر بن عاشور: "إن إبراهيم جمع في هذه الجملة جميع مايطلب لخير البلد".ونلحظ من خلال الآية أن الرزق قرين الأمن فلا يتحقق الرزق ورغد العيش إلا بعد تحقق الأمن.ولقد امتن الله على أهل مكة بهاتين النعمتين "الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف".وكذلك من الآيات الدالة على حب الأوطان قوله تعالى: "ولو أنَّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم".فالإنسان كما يحب نفسه ويخشى عليها من القتل ونحوه كذلك يحب وطنه فطرة ويخشى عليه من أي سوء يمسه. فجعل الإخراج من الوطن قرين إزهاق النفس والروح وهما شديدتان على الإنسان. وإذا كان حفظ النفس من الضروريات الخمس فإنه بضياع الأوطان لا تستقيم أصلاً هذه المقاصد الخمس.ومن الآيات الدالة على حب الأوطان قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض".والنفي من الأرض دليل على شدة العذاب به وما ذاك إلا لأن البلد محبوبة، فكان النفي عنها عقوبة ضمن مجموعة من العقوبات القاسية التي تضمنتها الآية الكريمة آنفة الذكر.ومن الآيات الدالة على حب الأوطان قوله تعالى عن بني إسرائيل: "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا". فالباعث لهم على القتال في سبيل الله هو ما حدث لهم من الإخراج من الأوطان وفوت الديار.ولا ينبغي أن يكون حب الوطن مجرد شعارات، بل علينا أن نحول هذا الحب إلى صور عملية تنهض بالوطن.ومن أهم الأمور العملية التي ينبغي لنا الاهتمام بها:المشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع وكذلك الدفاع عنه ضد من أراده بسوء، وكذلك المحافظة على ممتلكات الوطن ومرافقه والاهتمام بالترابط العائلي واللحمة الوطنية والعمل على تقدم الوطن ورقيه.فعلى كل إنسان أن يتحمل مسؤوليته تجاه وطنه بالدعاء له أن يسلمه الله من الفتن والمحن، وفي هذا اتباع لأبينا إبراهيم في دعائه لوطنه ورجائه باستتباب الأمن والأمان والرخاء وكل خير للوطن.وكذلك من حق وطنك عليك أن تكون عينًا ساهرة تحرس هذا البلد وألا تكون سببًا لحصول الفتن أو زعزعة أمنه واستقراره.ومن حق وطنك عليك أن تتعاون مع إخوانك على ما يحقق البر والتقوى، وأن تحمل هم البلاد وأن تنهض باقتصادها وفكرها، وأن تسعى جاهدًا في تحقيق الآمال المنشودة لجيلك وللأجيال القادمة.وفي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يدل على ارتباط المسلم بوطنه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخرجه قومه من مكة قال: "ماأطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، أخرجه الترمذي وصححه.يعلق ابن القيمرحمه الله فيقول: "صرح بمحبته لمكة، وكانت محبته تابعة لمحبة الله تعالى، ولقد كان العربي قديماً حين يخرج من وطنه يحمل معه تراباً من وطنه وبين الحين والحين يفتح الكيس ويشم التراب".ولقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نترجم هذا الحب في صورة عملية فلا يحل أن يشبع الإنسان وبجواره جائع وهو يعلم، فينبغي علينا أن يساعد بعضنا بعضاً وهذه ترجمة عمليه للمواطنة.* إعداد: معهد الإمام أحمد بن حنبل للعلوم الشرعية