د. محمد جابر الأنصاري
الكشف عن القيم الذاتية للإسلام هو الأمارة التي اتخذناها طابعاً لما سميناه (الإصلاح الديني). ولا نقصد بهذا الكشف (الدفاع) عن الإسلام لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة الدينية فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام.
وإنما نبغي فحسب، مدلول هذا (الكشف) من فصل ما يتصل بالإسلام من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير أو ركود في الفهم. والإصلاح الديني في مجال الإسلام ـ بهذا المعنى ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالمفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا المفكر.
الكشف عن القيم
إن هذا المفهوم ينتقل إلى التركيز على العامل الذاتي في الإسلام ويحصر الإصلاح في عملية الكشف عن قيمه الأصلية، ورد الاعتبار إليها، وتنقيتها، دون مذهبية خاصة، مما يعبر عن شموله الإجماعي، بينما يلتفت المفهوم الآخر، الأكثر مرونة إلى العناصر الحضارية الوافدة ويدعو إلى استيعابها ضمن دائرة الاعتقاد والأخلاق، ويشدد على ضرورة التجديد بما يوحي إن العامل الأصيل ذاته ـ وإن أعيد الكشف عنه ـ لا يفي بكافة الاحتياجات النظرية لمواجهة تحديات العصر.
يذكر عبدالقادر المغربي أحد الإصلاحيين السوريين من الذين رافقوا جمال الدين الأفغاني، أن السيد قال له في إحدى محاوراته الفكرية معه: "لابد لنا من حركة دينية ... إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدينة، نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده".
ومثل الإصلاح البروتستانتي وثورته ضد التقليد والسلطة الدينية مصدر إيحاء للرواد الإصلاحيين المسلمين مطلع النهضة، ورأوا فيه عودة بالمسيحية إلى الصورة الإسلامية للدين بالرجوع إلى الكتاب وتقليص دور (الواسطة) الكهنوتية بين العبد وربه.
غير انهم لم يطمحوا ـ مع هذا ـ لتغيير مماثل. وهذه المسألة بحاجة لدراسة متخصصة.
القرآن حمال وجوه
فالإسلام ظاهرة دينية حقيقية، والقرآن حمال وجوه ومعان وعندما يطالب المصلح الإسلامي المعاصر بـ (الكشف عن القيم الأصيلة في الإسلام، فإنه سيستوحي تلك القيم التي تتلاءم مع عصره وثقافته وظروفه).
أضف إلى ذلك أن مبدأ (الإجماع)، إذا تحقق وانعقد، يمكن أن يوفر المستند الشرعي لاستيعاب أنواع من المؤثرات وصهرها في بوتقة المعتقد الإسلامي، اعتمادا على المأثور النبوي (لا تجمع أمتي على خطأ)، دون التقيد بأي تفسير خاص لمفهوم (الإسلام الأصلي) عدا ما تحتمه ضوابط التفسير والتأويل والاجتهاد بالرأي، وهي ضوابط تختلف نوعيتها أيضا مرونة أو تشددا ـ من مدرسة إلى أخرى.
ولكن هل يعني ذلك أن أي درجة من (التجديد) ينعقد عليها (الإجماع) ـ يمكن أن تصب جزءا من السنة في الإسلام؟ وهل يمكن تقبل الرأي القائل: إن قبول التجديد أو رفضه، يتقرر بما يمكن أن نطلق عليه حديثا (مناخ الرأي) في الأوساط (الدينية) المتعلمة والمؤثرة.
أضف إلى ذلك أن عدم وجود أية هيئة تقيس الإجماع الشامل أو تمثله في عموم الإسلام، يؤدي إلى ظهور عدة أشكال من الإجماع متأثرة بتقاليد وظروف مختلفة في أنحاء العالم الإسلامي.
استيعاب المؤثرات الخارجية
لقد استوعب الإسلام قسطا كبير من المؤثرات الخارجية التي كانت غريبة عن دين الصحابة أحيانا بالتنازل للأفكار الحديثة، وأحيانا بالتوافق مع ممارسات الشعوب التي شملها، غير أن هذه التجديدات في المبدأ والممارسة ظلت مقيدة ومعدلة دائما بقرار الإجماع، كما ظلت عرضة، بين وقت وآخر، للتقليص بفعل موجات من المحافظة الدينية، التي كانت في حقيقتها تعبيرا عن تولد إجماع مضاد للإجماع الآخر؟؟
إذا صح ذلك، فإن الإجماع طبقا للظروف والعوامل الفاعلة في تحديده، وسواء كان متحررا يعتمد التأويل والاجتهاد، أو سلفيا يعتمد الظاهر والنقل، هو الذي يقرر نوعية الإصلاح الديني واتجاهه.
وفي حالة كون الإصلاح تحرري الاتجاه، فإن تجديده يستند إلى مدى ما تم استيعابه وقبوله من مؤثرات جديدة في عملية التوفيق، أما إذا كان سلفيا فإن قوة ردته تعتمد على مدى ما يتم رفضه من مؤثرات توفيقية سابقة تمازجت بالأصول الإسلامية، وهل الردة مخففة كردة الأشعري أم متصلبة كردة ابن تيمية.
أي إن الموقف من مبدأ التوفيق ـ قبولا أو رفضا ـ هو الذي يكشف عن اتجاه الإصلاح، وما إذا كان تجديديا أو سلفيا.
بمعنى آخر لابد للمصلح الإسلامي أن يقرر قبل البدء بعملية إصلاحه إن كان سيقبل بمبدأ التوفيق أم سيرفضه، وإلى أي درجة من درجات القبول أو الرفض، وطبقا لأي ضوابط.
حدود الشورى والإجماع
غير انه لابد من التنبه في مسألة الإصلاح الإسلامي، إن لمبادئ الشورى والإجماع والتأويل والاجتهاد والتوفيق حدودا يلزم أن نقف عندها في خاتمة المطاف.
ففي التحليل النهائي هناك حد قاطع في الإسلام لا يمكن تجاوزه وهو نطاق ما أمر الله وما نهى، ما أحل وما حرم، فالسلطة النهائية ـ في جوهر العقيدة وأسس الشريعة ـ لله لا للأمة، للشرع لا للشعب، وذلك بعد أن تستنفد جميع إمكانات (الإجتهاد) الفقهي والفكري واحتمالات (التأويل) العقلي.
وهذه المسألة لابد من التوقف أمامها في إطار المشروعية والمرجعية الإسلامية، إذ يمكن رفعها في وجه أية محاولة لتجاوز الاجتهاد البشري حدوده ونطاقه.
ويقرر عبدالقادر عودة، وهو قانوني من مفكري الإخوان (أعدمته الثورة عام 1954): (لمن الحكم؟ هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا إن الله هو خالق الكون ومالكه، وإنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض وأمرهم أن يتبعوا هداه ... فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وإنه جل شأنه هو الحاكم في هذا الكون .. وإن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به لأنهم .. قد استخلفوا في الأرض استخلافا مقيدا باتباع هدى الله).
ثم ينبه إلى محدودية الشورى الإسلامية واقتصارها على ما لم يقطع فيه ـ القرآن والسنة برأي وانحصارها في التطبيق وشؤونه لا في التشريع.
وهذا فارق هام بين الشورى في الإسلام والديمقراطية في الغرب حيث للأمة سلطة التشريع والحكم دون التقيد بأي مفهوم للسلطة الغيبية العليا... (الفكر العربي وصراع الاضداد د. محمد جابر الأنصاري).
{{ article.visit_count }}
الكشف عن القيم الذاتية للإسلام هو الأمارة التي اتخذناها طابعاً لما سميناه (الإصلاح الديني). ولا نقصد بهذا الكشف (الدفاع) عن الإسلام لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة الدينية فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام.
وإنما نبغي فحسب، مدلول هذا (الكشف) من فصل ما يتصل بالإسلام من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير أو ركود في الفهم. والإصلاح الديني في مجال الإسلام ـ بهذا المعنى ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالمفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا المفكر.
الكشف عن القيم
إن هذا المفهوم ينتقل إلى التركيز على العامل الذاتي في الإسلام ويحصر الإصلاح في عملية الكشف عن قيمه الأصلية، ورد الاعتبار إليها، وتنقيتها، دون مذهبية خاصة، مما يعبر عن شموله الإجماعي، بينما يلتفت المفهوم الآخر، الأكثر مرونة إلى العناصر الحضارية الوافدة ويدعو إلى استيعابها ضمن دائرة الاعتقاد والأخلاق، ويشدد على ضرورة التجديد بما يوحي إن العامل الأصيل ذاته ـ وإن أعيد الكشف عنه ـ لا يفي بكافة الاحتياجات النظرية لمواجهة تحديات العصر.
يذكر عبدالقادر المغربي أحد الإصلاحيين السوريين من الذين رافقوا جمال الدين الأفغاني، أن السيد قال له في إحدى محاوراته الفكرية معه: "لابد لنا من حركة دينية ... إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدينة، نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده".
ومثل الإصلاح البروتستانتي وثورته ضد التقليد والسلطة الدينية مصدر إيحاء للرواد الإصلاحيين المسلمين مطلع النهضة، ورأوا فيه عودة بالمسيحية إلى الصورة الإسلامية للدين بالرجوع إلى الكتاب وتقليص دور (الواسطة) الكهنوتية بين العبد وربه.
غير انهم لم يطمحوا ـ مع هذا ـ لتغيير مماثل. وهذه المسألة بحاجة لدراسة متخصصة.
القرآن حمال وجوه
فالإسلام ظاهرة دينية حقيقية، والقرآن حمال وجوه ومعان وعندما يطالب المصلح الإسلامي المعاصر بـ (الكشف عن القيم الأصيلة في الإسلام، فإنه سيستوحي تلك القيم التي تتلاءم مع عصره وثقافته وظروفه).
أضف إلى ذلك أن مبدأ (الإجماع)، إذا تحقق وانعقد، يمكن أن يوفر المستند الشرعي لاستيعاب أنواع من المؤثرات وصهرها في بوتقة المعتقد الإسلامي، اعتمادا على المأثور النبوي (لا تجمع أمتي على خطأ)، دون التقيد بأي تفسير خاص لمفهوم (الإسلام الأصلي) عدا ما تحتمه ضوابط التفسير والتأويل والاجتهاد بالرأي، وهي ضوابط تختلف نوعيتها أيضا مرونة أو تشددا ـ من مدرسة إلى أخرى.
ولكن هل يعني ذلك أن أي درجة من (التجديد) ينعقد عليها (الإجماع) ـ يمكن أن تصب جزءا من السنة في الإسلام؟ وهل يمكن تقبل الرأي القائل: إن قبول التجديد أو رفضه، يتقرر بما يمكن أن نطلق عليه حديثا (مناخ الرأي) في الأوساط (الدينية) المتعلمة والمؤثرة.
أضف إلى ذلك أن عدم وجود أية هيئة تقيس الإجماع الشامل أو تمثله في عموم الإسلام، يؤدي إلى ظهور عدة أشكال من الإجماع متأثرة بتقاليد وظروف مختلفة في أنحاء العالم الإسلامي.
استيعاب المؤثرات الخارجية
لقد استوعب الإسلام قسطا كبير من المؤثرات الخارجية التي كانت غريبة عن دين الصحابة أحيانا بالتنازل للأفكار الحديثة، وأحيانا بالتوافق مع ممارسات الشعوب التي شملها، غير أن هذه التجديدات في المبدأ والممارسة ظلت مقيدة ومعدلة دائما بقرار الإجماع، كما ظلت عرضة، بين وقت وآخر، للتقليص بفعل موجات من المحافظة الدينية، التي كانت في حقيقتها تعبيرا عن تولد إجماع مضاد للإجماع الآخر؟؟
إذا صح ذلك، فإن الإجماع طبقا للظروف والعوامل الفاعلة في تحديده، وسواء كان متحررا يعتمد التأويل والاجتهاد، أو سلفيا يعتمد الظاهر والنقل، هو الذي يقرر نوعية الإصلاح الديني واتجاهه.
وفي حالة كون الإصلاح تحرري الاتجاه، فإن تجديده يستند إلى مدى ما تم استيعابه وقبوله من مؤثرات جديدة في عملية التوفيق، أما إذا كان سلفيا فإن قوة ردته تعتمد على مدى ما يتم رفضه من مؤثرات توفيقية سابقة تمازجت بالأصول الإسلامية، وهل الردة مخففة كردة الأشعري أم متصلبة كردة ابن تيمية.
أي إن الموقف من مبدأ التوفيق ـ قبولا أو رفضا ـ هو الذي يكشف عن اتجاه الإصلاح، وما إذا كان تجديديا أو سلفيا.
بمعنى آخر لابد للمصلح الإسلامي أن يقرر قبل البدء بعملية إصلاحه إن كان سيقبل بمبدأ التوفيق أم سيرفضه، وإلى أي درجة من درجات القبول أو الرفض، وطبقا لأي ضوابط.
حدود الشورى والإجماع
غير انه لابد من التنبه في مسألة الإصلاح الإسلامي، إن لمبادئ الشورى والإجماع والتأويل والاجتهاد والتوفيق حدودا يلزم أن نقف عندها في خاتمة المطاف.
ففي التحليل النهائي هناك حد قاطع في الإسلام لا يمكن تجاوزه وهو نطاق ما أمر الله وما نهى، ما أحل وما حرم، فالسلطة النهائية ـ في جوهر العقيدة وأسس الشريعة ـ لله لا للأمة، للشرع لا للشعب، وذلك بعد أن تستنفد جميع إمكانات (الإجتهاد) الفقهي والفكري واحتمالات (التأويل) العقلي.
وهذه المسألة لابد من التوقف أمامها في إطار المشروعية والمرجعية الإسلامية، إذ يمكن رفعها في وجه أية محاولة لتجاوز الاجتهاد البشري حدوده ونطاقه.
ويقرر عبدالقادر عودة، وهو قانوني من مفكري الإخوان (أعدمته الثورة عام 1954): (لمن الحكم؟ هذا سؤال لا تصعب الإجابة عليه بعد أن علمنا إن الله هو خالق الكون ومالكه، وإنه استعمر البشر واستخلفهم في الأرض وأمرهم أن يتبعوا هداه ... فكل ذي منطق سليم لا يستطيع أن يقول بعد أن علم هذا إلا أن الحكم لله، وإنه جل شأنه هو الحاكم في هذا الكون .. وإن على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل ويحكموا به لأنهم .. قد استخلفوا في الأرض استخلافا مقيدا باتباع هدى الله).
ثم ينبه إلى محدودية الشورى الإسلامية واقتصارها على ما لم يقطع فيه ـ القرآن والسنة برأي وانحصارها في التطبيق وشؤونه لا في التشريع.
وهذا فارق هام بين الشورى في الإسلام والديمقراطية في الغرب حيث للأمة سلطة التشريع والحكم دون التقيد بأي مفهوم للسلطة الغيبية العليا... (الفكر العربي وصراع الاضداد د. محمد جابر الأنصاري).