د. محمد جابر الأنصاري
أولاً ـ يمكن القول بصفة عامة إن الفكر العربي الحديث ظل لأجيال تحت تأثير الفلسفة المثالية الأوروبية بمختلف اتجاهاتها، وأن تأثره بالتيار الآخر، المادي الوضعي، والمادي الجدلي على الأخص، جاء محدوداً وعلى نطاق فردي، أو جماعي صغير، حتى وقت متأخر زمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
ويعود ذلك إلى سببين: أولهما سيطرة فكر الدولتين المحتلتين، فرنسا وبريطانيا، بنزعاته المثالية وعدائه للمادية الجدلية "الماركسية"، على الثقافة المحلية الجديدة في الشرق العربي، وثانيهما النفور الكامن في الثقافة الإسلامية التقليدية من الإتجاه المادي ونتائجه اللادينية أو الإلحادية.
الانفتاح على أوليات الثقافة الأوروبية
"ثم إن التطور الطبيعي بحد ذاته كان يقتضي انفتاح الفكر العربي على أوليات الثقافة الأوروبية واتجاهاتها الأقدم والأكثر رسوخاً وتأثيراً، وأن يستوعبها كي يصبح قادرا فيما بعد، على تقبل اتجاهاتها الأكثر جدةً وتطرفاً وبعدا ًعن خلفيته الإيمانية. وهو تقبل يعتمد حصوله أيضاً على درجة من التطور الاجتماعي وظهور طبقات وفئات مهيأة لاستيعابه وتبنيه".
فطه حسين على سبيل المثال، بدأ بمنهج الشك الديكارتي في بحث "في الشعر الجاهلي". والشك الديكارتي في حقيقته وتحليله النهائي شك منهجي وليس شكاً اعتقادياً فلسفياً، لأن ديكارت ذاته تجاوزه بعد تطبيقه منهجياً وعاد إلى ثنائية الروح والجسد، وأكد أولوية الإيمان منضوياً بذلك تحت الاتجاه المثالي الأوروبي الجديد الذي غدا علماً من أعلامه.
وأقصى ما وصلت إليه مادية طه حسين تأثره بالفكر الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي دركهايم "1858 ـ 1917"الذي درس على يديه. ودركهايم ليس مادياً بالمفهوم الجدلي أو الوضعي الخالص، ولكه أخضع قيم الدين والأخلاق في دراسته للمجتمع للتطور التاريخي الواقعي ورد مصدر تلك القيم إلى الوجدان الاجتماعي وذهب إلى أن الجماعة تكون معتقداتها.
ومحمد حسين هيكل تأرجح بين المادية الوضعية العقلانية لأوغست كونت "1798 ـ 1857" الذي اهتم لفترة من الوقت بنقل أفكاره إلى العربية، وبين إيمانية جان جاك روسو "1712 ـ 1778" وبحثه عن الديانة الطبيعية الإنسانية المؤمنة والقائمة على شعور القلب ويقينه العفوي، وقام بتأليف كتاب عنه.
وفي النهاية اندمج الاتجاهان لديه في توفيقية العقل والإيمان حيث وازن بين المادية والمثالية، مع تغليب ضمني للثانية في إطار الإيمان الإسلامي الذي تحول إليه.
أما العقاد، فقد وقف موقفاً عدائياً تجاه المادية، وخاصة فرعها الديالكتيكي الماركسي، ونقدها نقداً لاذعاً وعنيفاً. أما تأثره بالفلاسفة المثاليين فكان جلياً وعميقا ومتعدد الأوجه.
ولأن العقاد أغزر المفكرين التوفيقيين المحدثين إنتاجا، وأكثرهم تعرضاً لمناحي التوفيق المستجد في مختلف جوانبه ومشكلاته "بغض النظر عن مدى أصالة توفيقه ووجاهة حججه واتساقها" ـ فإن فكره يصلح نموذجاً لدراسة كيفية اللقاء والتأثر والتفاعل بين التوفيقية العربية والمثالية الأوروبية.
ويرى شوقي ضيف أن من جملة أسباب غموض العقاد في أسلوبه، قراءاته للفلاسفة الألمان من أمثال شوبنهور ونيتشه وكانت. ويحاول عثمان أمين من جهة أخرى أن يثبت بأن العقاد تابع كانط في فلسفته في التفريق بين عالم الظاهرات وعالم الأشياء في ذاتها.
ويرى آخرون أن موقف العقاد من المرأة لا يختلف بقليل أو كثير عن موقف شوبنهور منها.
وفي البحث الذي أفرده الدكتور محمد البهي ـ وهو مفكر توفيقي متخصص ـ لدراسة الفكر الإسلامي الحديث نجد أنه يقسم نطاق المعرفة والفكر إلى قسمين متصارعين متواجهين: جانب الفلسفات المادية الوضعية من جهة، وجانب الدين والفلسفة المثالية من ناحية أخرى، ويرى أن بين الدين والفلسفة المثالية ما يشبه المطابقة في القضايا الأساسية، وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها إبراهيم اللبان في كتابه الفلسفة والمجتمع الإسلامي، كما تقدم.
وبذلك يمكن القول إن عنصر الفلسفة المثالية يمثل همزة الوصل على النطاق الفكري بين المعتقد الإسلامي والعقل الأوروبي الحديث، وإن التوفيقية هي المجال الأبرز للقاء بين الجانبين.
مدخل شرعي للنفوذ لنطاق الإسلام
ثانياً ـ هذه الأفكار المثالية الإيمانية الوافدة، هل لها "مدخل شرعي" لكي تنفذ إلى داخل نطاق الإسلام، وتلتحم به، وتصبح جزءاً منه؟ وهل لما يدعو إليه إبراهيم اللبان من "تجديد ديني عام" و "ثورة فكرية" و "حركة عقلية"، مبررات إسلامية ذاتية؟ هذه الأسئلة تطرح قضية "الإصلاح الديني" في الإسلام، ومدى فهم التوفيقية الجديدة لهذه الضرورة، ونوع موقفها منها.
تتردد في التراث الإسلامي، الديني ـ السياسي، فكرة انتظار المهدي ـ ونشير إليها بالمعنى الإسلامي العام المتداول لدى مختلف الفرق الذي سيظهر يوماً ما ليملأها عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، وليزيل التحريف الذي أصاب الدين.
وهو قد يجمع بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، نظراً لالتحام الجانبين في الإسلام، كما تجسد ذلك مثلاً في حياة محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، السنية المالكية.
غير أن ظاهرة المهدي وإن ارتبطت بفكرة الإصلاح والثورة فهي بعيدة عن مفهوم التجديد العقلي والثورة الفكرية، لأنها بطبيعتها فكرة إيمانية إلهامية يعتمد ظهورها، حسب المعتقد، على الإرادة الإلهية ويعتمد محتواها ومضمونها على بصيرة المهدي وكراماته الغيبية.
لذا فقد انتشرت هذه الظاهرة في الأطراف الإسلامية البعيدة عن فعل المؤثرات العقلية. إنها تعبر عن تجديد الإيمان لذاته بذاته، أي بفعل إيماني خارق لا بنظر عقلي أو اجتهادي إرادي بشري... "الفكر العربي وصراع الأضداد د. محمد جابر الأنصاري".
{{ article.visit_count }}
أولاً ـ يمكن القول بصفة عامة إن الفكر العربي الحديث ظل لأجيال تحت تأثير الفلسفة المثالية الأوروبية بمختلف اتجاهاتها، وأن تأثره بالتيار الآخر، المادي الوضعي، والمادي الجدلي على الأخص، جاء محدوداً وعلى نطاق فردي، أو جماعي صغير، حتى وقت متأخر زمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
ويعود ذلك إلى سببين: أولهما سيطرة فكر الدولتين المحتلتين، فرنسا وبريطانيا، بنزعاته المثالية وعدائه للمادية الجدلية "الماركسية"، على الثقافة المحلية الجديدة في الشرق العربي، وثانيهما النفور الكامن في الثقافة الإسلامية التقليدية من الإتجاه المادي ونتائجه اللادينية أو الإلحادية.
الانفتاح على أوليات الثقافة الأوروبية
"ثم إن التطور الطبيعي بحد ذاته كان يقتضي انفتاح الفكر العربي على أوليات الثقافة الأوروبية واتجاهاتها الأقدم والأكثر رسوخاً وتأثيراً، وأن يستوعبها كي يصبح قادرا فيما بعد، على تقبل اتجاهاتها الأكثر جدةً وتطرفاً وبعدا ًعن خلفيته الإيمانية. وهو تقبل يعتمد حصوله أيضاً على درجة من التطور الاجتماعي وظهور طبقات وفئات مهيأة لاستيعابه وتبنيه".
فطه حسين على سبيل المثال، بدأ بمنهج الشك الديكارتي في بحث "في الشعر الجاهلي". والشك الديكارتي في حقيقته وتحليله النهائي شك منهجي وليس شكاً اعتقادياً فلسفياً، لأن ديكارت ذاته تجاوزه بعد تطبيقه منهجياً وعاد إلى ثنائية الروح والجسد، وأكد أولوية الإيمان منضوياً بذلك تحت الاتجاه المثالي الأوروبي الجديد الذي غدا علماً من أعلامه.
وأقصى ما وصلت إليه مادية طه حسين تأثره بالفكر الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي دركهايم "1858 ـ 1917"الذي درس على يديه. ودركهايم ليس مادياً بالمفهوم الجدلي أو الوضعي الخالص، ولكه أخضع قيم الدين والأخلاق في دراسته للمجتمع للتطور التاريخي الواقعي ورد مصدر تلك القيم إلى الوجدان الاجتماعي وذهب إلى أن الجماعة تكون معتقداتها.
ومحمد حسين هيكل تأرجح بين المادية الوضعية العقلانية لأوغست كونت "1798 ـ 1857" الذي اهتم لفترة من الوقت بنقل أفكاره إلى العربية، وبين إيمانية جان جاك روسو "1712 ـ 1778" وبحثه عن الديانة الطبيعية الإنسانية المؤمنة والقائمة على شعور القلب ويقينه العفوي، وقام بتأليف كتاب عنه.
وفي النهاية اندمج الاتجاهان لديه في توفيقية العقل والإيمان حيث وازن بين المادية والمثالية، مع تغليب ضمني للثانية في إطار الإيمان الإسلامي الذي تحول إليه.
أما العقاد، فقد وقف موقفاً عدائياً تجاه المادية، وخاصة فرعها الديالكتيكي الماركسي، ونقدها نقداً لاذعاً وعنيفاً. أما تأثره بالفلاسفة المثاليين فكان جلياً وعميقا ومتعدد الأوجه.
ولأن العقاد أغزر المفكرين التوفيقيين المحدثين إنتاجا، وأكثرهم تعرضاً لمناحي التوفيق المستجد في مختلف جوانبه ومشكلاته "بغض النظر عن مدى أصالة توفيقه ووجاهة حججه واتساقها" ـ فإن فكره يصلح نموذجاً لدراسة كيفية اللقاء والتأثر والتفاعل بين التوفيقية العربية والمثالية الأوروبية.
ويرى شوقي ضيف أن من جملة أسباب غموض العقاد في أسلوبه، قراءاته للفلاسفة الألمان من أمثال شوبنهور ونيتشه وكانت. ويحاول عثمان أمين من جهة أخرى أن يثبت بأن العقاد تابع كانط في فلسفته في التفريق بين عالم الظاهرات وعالم الأشياء في ذاتها.
ويرى آخرون أن موقف العقاد من المرأة لا يختلف بقليل أو كثير عن موقف شوبنهور منها.
وفي البحث الذي أفرده الدكتور محمد البهي ـ وهو مفكر توفيقي متخصص ـ لدراسة الفكر الإسلامي الحديث نجد أنه يقسم نطاق المعرفة والفكر إلى قسمين متصارعين متواجهين: جانب الفلسفات المادية الوضعية من جهة، وجانب الدين والفلسفة المثالية من ناحية أخرى، ويرى أن بين الدين والفلسفة المثالية ما يشبه المطابقة في القضايا الأساسية، وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها إبراهيم اللبان في كتابه الفلسفة والمجتمع الإسلامي، كما تقدم.
وبذلك يمكن القول إن عنصر الفلسفة المثالية يمثل همزة الوصل على النطاق الفكري بين المعتقد الإسلامي والعقل الأوروبي الحديث، وإن التوفيقية هي المجال الأبرز للقاء بين الجانبين.
مدخل شرعي للنفوذ لنطاق الإسلام
ثانياً ـ هذه الأفكار المثالية الإيمانية الوافدة، هل لها "مدخل شرعي" لكي تنفذ إلى داخل نطاق الإسلام، وتلتحم به، وتصبح جزءاً منه؟ وهل لما يدعو إليه إبراهيم اللبان من "تجديد ديني عام" و "ثورة فكرية" و "حركة عقلية"، مبررات إسلامية ذاتية؟ هذه الأسئلة تطرح قضية "الإصلاح الديني" في الإسلام، ومدى فهم التوفيقية الجديدة لهذه الضرورة، ونوع موقفها منها.
تتردد في التراث الإسلامي، الديني ـ السياسي، فكرة انتظار المهدي ـ ونشير إليها بالمعنى الإسلامي العام المتداول لدى مختلف الفرق الذي سيظهر يوماً ما ليملأها عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، وليزيل التحريف الذي أصاب الدين.
وهو قد يجمع بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، نظراً لالتحام الجانبين في الإسلام، كما تجسد ذلك مثلاً في حياة محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، السنية المالكية.
غير أن ظاهرة المهدي وإن ارتبطت بفكرة الإصلاح والثورة فهي بعيدة عن مفهوم التجديد العقلي والثورة الفكرية، لأنها بطبيعتها فكرة إيمانية إلهامية يعتمد ظهورها، حسب المعتقد، على الإرادة الإلهية ويعتمد محتواها ومضمونها على بصيرة المهدي وكراماته الغيبية.
لذا فقد انتشرت هذه الظاهرة في الأطراف الإسلامية البعيدة عن فعل المؤثرات العقلية. إنها تعبر عن تجديد الإيمان لذاته بذاته، أي بفعل إيماني خارق لا بنظر عقلي أو اجتهادي إرادي بشري... "الفكر العربي وصراع الأضداد د. محمد جابر الأنصاري".