د. فؤاد زكريا
ظهرت هذه المحاولات بقوة في القرن التاسع عشر، وإن كنا نجد في القرن الثامن عشر ناقداً قديماً لاسپينوزا، هو «ڨاختر Georg Wachter» يرجع تعاليم اسپينوزا إلى مذهب «القبالة Cabbale» اليهودي الذي انتشر في العصور الوسطى.
وقد تحمس لهذه الفكرة في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني «يول Joel» في كتابه «منشأ نظرية اسپينوزا Zur Genesis der Lehre Spinozas» ثم حاول «فروينتال Freudenthal» ومن بعده «جبهارت Gebhardt» أن يبنياها على أساس من البحث الدقيق، وتدفق بعد ذلك سيل الشراح اليهود الآخرين الذين حاولوا أن يدخلوه قسراً ضمن التراث اليهودي.
فئة المتعصبين
ونستطيع أن نجد بين الشراح اليهود اتجاهات مختلفة في موقفهم من مسألة انتساب اسپينوزا إلى اليهودية، يمكننا أن نقسمها بوجه عام إلى الفئات الآتية:
(أ) فئة المتعصبين اللاعقليين، وهي فئة يستدعي موقفها كثيراً من التدبر والتفكير في مدى الضراوة التي يمكن أن تتخذها العنصرية اليهودية إذا ما أرادت إثبات امتياز الشعب اليهودي وتفوقه على حساب العقل والمنطق السليم. وأصحاب هذه الفئة لا يقدمون حججا عقلية، وإنما يتحدثون في هوس وجنون عن عظمة الأمة اليهودية وضرورة انتساب اسپينوزا إليها، وتظهر أوضح أمثلة هذه الفئة في مقال كتبه «هاري واتون Harry Waton» بعنوان «المسألة اليهودية وفلسفة اسپينوزا» يقول فيه: «إن اسپينوزا والأمة اليهودية هما شيء واحد في الماهية وفي المصير.» ويقول أيضاً: «إن ما كشفه اسپينوزا صراحة هو ماهية اليهودية وروحها.» وفي المقال نجد أحكاما مثل «إن الأمة اليهودية تحتل من الهرم البشري قمته، والأمة اليهودية هي العنصر «الصدوق» (أي الأمين المخلص Zaddik) في الجنس البشري. وقد خلق العالم كله من أجل الأمة اليهودية.» فهل يستغرب أحد — بعد هذه التصريحات العنصرية الهستيرية — إذا قيل إن اليهود لا يفترقون عن مضطهديهم من أعداء السامية في شيء، بل إذا قيل إنهم هم الذين يستفزون العالم إلى هذا الاضطهاد؟!
نزعات عنصرية
(ب) والفئة الثانية تتألف من المذبذبين الذين يعلمون حق العلم من دراستهم لاسپينوزا أن أفكاره الحقيقية لا تتفق مع اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون إرضاء نزعاتهم العنصرية التي تدفعهم إلى تأكيد هذا الاتفاق. وهكذا يظلون يؤكدون الاتفاق تارة وينفونه تارة أخرى دون أية محاولة لاتخاذ موقف صريح من المسألة. ومن أوضح أمثلة هذه الفئة «رخمان Rakhman» الذي أستطيع أن أقول إن مقاله عن «اسپينوزا واليهودية» من أعجب ما قرأت! فهو يؤكد في البداية تأثر اسپينوزا باليهودية، ويأتي بقائمة طويلة من العناصر التي يفترض فيها وجود هذا التأثير، ثم يعود فيؤكد وجود اختلافات أساسية بين تفكير اسپينوزا وبين نفس المصادر اليهودية التي قال بها، وهي اختلافات بلغت من الأهمية حدا كان من الواجب معه، لمجرد تنبّهه إليها، أن ينفي وجود أي تأثير لها عليه. ومع ذلك يعود مرة أخرى، وبعد ذلك مباشرة، فيقول (في ص٥٩-٦٠ من المقال المذكور): «إن كتاب الأخلاق هو أكثر ما أنتجته اليهودية من الكتب كمالاً ونضجاً.» وبعد ذلك مباشرةً (ص٦٠) يقول: إن اسپينوزا لا يمكن أن يعد فيلسوفاً يهودياً بالمعنى الدقيق، وإن اسپينوزا لا ينتمي إلى شعب بعينه، وإنما إلى البشرية جمعاء. كل هذه المواقف المترددة المذبذبة تقع في صفحات مقال قصير، ينتقل فيه المؤلف من الضد إلى الضد على نحو إن دل على شيء فإنما يدل على العجز عن تحمل المسؤولية الأدبية لموقف صريح واضح.
تأثر ولكن
(جـ) وهناك فئة ثالثة لا يترك أفرادها آراءهم المتضادة هكذا جنباً إلى جنب دون محاولة لإزالة التناقض بينها، بل يأخذون موقفا ويتحملون مسئوليته: وهذا الموقف هو أن اسپينوزا قد تأثر فعلاً بالتراث اليهودي، ثم يحاولون دعم هذا الموقف بالأسانيد. ومن المؤكد أن الكثيرين ممن ينتمون إلى هذه الفئة قد تنبهوا أيضاً إلى وجود عناصر تتنافى مع التراث اليهودي، ولكنهم تحايلوا على هذه العناصر، وأساءوا تفسيرها في كثير من الأحيان، وسوف نناقش حجج هذه الفئة فيما بعد بالتفصيل، ولكن يكفي أن نقول الآن: إن آراءها تتسم بمسحة علمية؛ ولذلك فهي لا تدعو إلى الازدراء كالفئتين السابقتين. وإلى هذه الفئة ينتمي عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود المشهورين، مثل فرويدنتال، وجبهارت، وولفسون وروث.
(د) وأخيراً فإن أكثر هذه الفئات اليهودية أمانة هي تلك التي تمكنت من تغليب الحقيقة على الميول العنصرية، وإنكار وجود مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا، وهي تتفاوت من شراح ينكرون هذا التأثير جزئياً، مثل «واكسمان Waxman»، إلى آخرين ينكرونه تمامًا، مثل «كاسيرر»، و«فوير» و«ليوشتراوس».
تفنيد المشتركات
وسوف نعرض في الأقسام التالية في هذا الفصل أمثلة للعناصر الرئيسة التي يقال: إنَّها مشتركة بين اسپينوزا وبين اليهودية، ونفند كلا منها في نفس الوقت. وينبغي أن يلاحظ على هذا التفنيد أمران:
(أ) أننا لسنا بحاجة إلى رد فعل مفصل على كل حجة من الحجج التي تساق للتقريب بين اسپينوزا وبين اليهودية؛ إذ إن جميع فصول هذا الكتاب يمكن أن تعد ردوداً مفصلة على هذه الحجج، ويكفي أن يرجع القارئ إلى الصفحات التي عولج فيها أي موضوع تدور حوله الحجة المعينة في هذا الكتاب، ليجد فيها حتماً الرد الحاسم على هذه الحجج.
(ب) أننا سنلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهة مفكر يهودي بمفكر يهودي آخر يقول برأي مضاد. وكما قلنا من قبل؛ ففي وسعنا أن نجد كثيراً من المفكرين اليهود الذين امتنعوا عن السير في هذه المحاولة العقيمة، واستنكروها لأنهم يدركون أن القضية خاسرة منذ البداية، وفي هذه المواجهة بين المؤيدين والمنكرين نستطيع أن نجد الرد الكافي في كثير من الأحيان... (كتاب سبينوزا للدكتور فؤاد زكريا).
ظهرت هذه المحاولات بقوة في القرن التاسع عشر، وإن كنا نجد في القرن الثامن عشر ناقداً قديماً لاسپينوزا، هو «ڨاختر Georg Wachter» يرجع تعاليم اسپينوزا إلى مذهب «القبالة Cabbale» اليهودي الذي انتشر في العصور الوسطى.
وقد تحمس لهذه الفكرة في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني «يول Joel» في كتابه «منشأ نظرية اسپينوزا Zur Genesis der Lehre Spinozas» ثم حاول «فروينتال Freudenthal» ومن بعده «جبهارت Gebhardt» أن يبنياها على أساس من البحث الدقيق، وتدفق بعد ذلك سيل الشراح اليهود الآخرين الذين حاولوا أن يدخلوه قسراً ضمن التراث اليهودي.
فئة المتعصبين
ونستطيع أن نجد بين الشراح اليهود اتجاهات مختلفة في موقفهم من مسألة انتساب اسپينوزا إلى اليهودية، يمكننا أن نقسمها بوجه عام إلى الفئات الآتية:
(أ) فئة المتعصبين اللاعقليين، وهي فئة يستدعي موقفها كثيراً من التدبر والتفكير في مدى الضراوة التي يمكن أن تتخذها العنصرية اليهودية إذا ما أرادت إثبات امتياز الشعب اليهودي وتفوقه على حساب العقل والمنطق السليم. وأصحاب هذه الفئة لا يقدمون حججا عقلية، وإنما يتحدثون في هوس وجنون عن عظمة الأمة اليهودية وضرورة انتساب اسپينوزا إليها، وتظهر أوضح أمثلة هذه الفئة في مقال كتبه «هاري واتون Harry Waton» بعنوان «المسألة اليهودية وفلسفة اسپينوزا» يقول فيه: «إن اسپينوزا والأمة اليهودية هما شيء واحد في الماهية وفي المصير.» ويقول أيضاً: «إن ما كشفه اسپينوزا صراحة هو ماهية اليهودية وروحها.» وفي المقال نجد أحكاما مثل «إن الأمة اليهودية تحتل من الهرم البشري قمته، والأمة اليهودية هي العنصر «الصدوق» (أي الأمين المخلص Zaddik) في الجنس البشري. وقد خلق العالم كله من أجل الأمة اليهودية.» فهل يستغرب أحد — بعد هذه التصريحات العنصرية الهستيرية — إذا قيل إن اليهود لا يفترقون عن مضطهديهم من أعداء السامية في شيء، بل إذا قيل إنهم هم الذين يستفزون العالم إلى هذا الاضطهاد؟!
نزعات عنصرية
(ب) والفئة الثانية تتألف من المذبذبين الذين يعلمون حق العلم من دراستهم لاسپينوزا أن أفكاره الحقيقية لا تتفق مع اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون إرضاء نزعاتهم العنصرية التي تدفعهم إلى تأكيد هذا الاتفاق. وهكذا يظلون يؤكدون الاتفاق تارة وينفونه تارة أخرى دون أية محاولة لاتخاذ موقف صريح من المسألة. ومن أوضح أمثلة هذه الفئة «رخمان Rakhman» الذي أستطيع أن أقول إن مقاله عن «اسپينوزا واليهودية» من أعجب ما قرأت! فهو يؤكد في البداية تأثر اسپينوزا باليهودية، ويأتي بقائمة طويلة من العناصر التي يفترض فيها وجود هذا التأثير، ثم يعود فيؤكد وجود اختلافات أساسية بين تفكير اسپينوزا وبين نفس المصادر اليهودية التي قال بها، وهي اختلافات بلغت من الأهمية حدا كان من الواجب معه، لمجرد تنبّهه إليها، أن ينفي وجود أي تأثير لها عليه. ومع ذلك يعود مرة أخرى، وبعد ذلك مباشرة، فيقول (في ص٥٩-٦٠ من المقال المذكور): «إن كتاب الأخلاق هو أكثر ما أنتجته اليهودية من الكتب كمالاً ونضجاً.» وبعد ذلك مباشرةً (ص٦٠) يقول: إن اسپينوزا لا يمكن أن يعد فيلسوفاً يهودياً بالمعنى الدقيق، وإن اسپينوزا لا ينتمي إلى شعب بعينه، وإنما إلى البشرية جمعاء. كل هذه المواقف المترددة المذبذبة تقع في صفحات مقال قصير، ينتقل فيه المؤلف من الضد إلى الضد على نحو إن دل على شيء فإنما يدل على العجز عن تحمل المسؤولية الأدبية لموقف صريح واضح.
تأثر ولكن
(جـ) وهناك فئة ثالثة لا يترك أفرادها آراءهم المتضادة هكذا جنباً إلى جنب دون محاولة لإزالة التناقض بينها، بل يأخذون موقفا ويتحملون مسئوليته: وهذا الموقف هو أن اسپينوزا قد تأثر فعلاً بالتراث اليهودي، ثم يحاولون دعم هذا الموقف بالأسانيد. ومن المؤكد أن الكثيرين ممن ينتمون إلى هذه الفئة قد تنبهوا أيضاً إلى وجود عناصر تتنافى مع التراث اليهودي، ولكنهم تحايلوا على هذه العناصر، وأساءوا تفسيرها في كثير من الأحيان، وسوف نناقش حجج هذه الفئة فيما بعد بالتفصيل، ولكن يكفي أن نقول الآن: إن آراءها تتسم بمسحة علمية؛ ولذلك فهي لا تدعو إلى الازدراء كالفئتين السابقتين. وإلى هذه الفئة ينتمي عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود المشهورين، مثل فرويدنتال، وجبهارت، وولفسون وروث.
(د) وأخيراً فإن أكثر هذه الفئات اليهودية أمانة هي تلك التي تمكنت من تغليب الحقيقة على الميول العنصرية، وإنكار وجود مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا، وهي تتفاوت من شراح ينكرون هذا التأثير جزئياً، مثل «واكسمان Waxman»، إلى آخرين ينكرونه تمامًا، مثل «كاسيرر»، و«فوير» و«ليوشتراوس».
تفنيد المشتركات
وسوف نعرض في الأقسام التالية في هذا الفصل أمثلة للعناصر الرئيسة التي يقال: إنَّها مشتركة بين اسپينوزا وبين اليهودية، ونفند كلا منها في نفس الوقت. وينبغي أن يلاحظ على هذا التفنيد أمران:
(أ) أننا لسنا بحاجة إلى رد فعل مفصل على كل حجة من الحجج التي تساق للتقريب بين اسپينوزا وبين اليهودية؛ إذ إن جميع فصول هذا الكتاب يمكن أن تعد ردوداً مفصلة على هذه الحجج، ويكفي أن يرجع القارئ إلى الصفحات التي عولج فيها أي موضوع تدور حوله الحجة المعينة في هذا الكتاب، ليجد فيها حتماً الرد الحاسم على هذه الحجج.
(ب) أننا سنلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهة مفكر يهودي بمفكر يهودي آخر يقول برأي مضاد. وكما قلنا من قبل؛ ففي وسعنا أن نجد كثيراً من المفكرين اليهود الذين امتنعوا عن السير في هذه المحاولة العقيمة، واستنكروها لأنهم يدركون أن القضية خاسرة منذ البداية، وفي هذه المواجهة بين المؤيدين والمنكرين نستطيع أن نجد الرد الكافي في كثير من الأحيان... (كتاب سبينوزا للدكتور فؤاد زكريا).