أمين معلوف... صراع الهوية والكتابة فوق الكتابة (1- 2)
غسان علي عثمان
أن ينتهي الجدل حول علاقة الرواية بالتاريخ؟ الإجابة في ظننا تظل معلقة، ذلك فإن أكثر الآراء تنصرف ناحية صعوبة فك الاشتباك بين ما هو تاريخي وما هو سردي تخييلي، ولعل التنظيرات المؤسسة لهذا الفهم تعود إلى مفهوم الرواية التاريخية الذي قعد في كتابات أولى في الأدب الإنجليزي وقوفاً عند وليم شكسبير وأعماله التي تناولت بالسرد فترات تاريخية، وغيره أمثال فكتور هوجو في فرنسا وتولستوي في روسيا، بل حتى ماركيز له نصيب في الاتكاء على اليومي والتاريخي في بعض أعماله، وفي الأدب العربي كذلك الأمثلة كثيرة، ولم يكن للتخييل، والتخييل الذاتي بالأساس من مساحة كما هو الحال الآن في بعض الأعمال التي تستند إلى التاريخ ولحظاته، ولو أردنا تلخيص جملة الجدل في هذه المسألة فإن البعض يرى أن الرواية التاريخية هي العمل على إعادة بناء النص طمعاً في تناول ما تم إغفاله أو سقط من يد المؤرخ، أو حتى كان من غير المفكر فيه، وهذا الفريق يستعد بكامل عدته الإبداعية لكتابة تاريخ التاريخ، أو تأريخ ما لم يؤرخ له، إنه يستلهم لحظات تاريخية يعمل على تركيبها من جديد، وهذا التركيب المقترح يهرب باستمرار من فخ الوقوع في التدوين وهو شغل المؤرخ، وحقيقة من الصعب الوصول إلى نقطة مريحة لفك العلاقة بين ما هو إبداعي وما هو تاريخي، ولذا فإننا نعتقد بسلامة الذهاب ناحية دراسة كل عمل على حدا، وذلك ما سيعجل بالوصول إلى نتائج تراكمية تسمح في وقت ما أن نحل هذه المسألة. وقد لا نذهب بعيداً إن قلنا بأن أعمال الروائي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف هي التي أنقذت الرواية من شرك التأريخ والأرشفة لتحول السرد إلى كتابة جديدة، وهذا بسبب براعة وجدة معلوف التي أكثر ما تتبدى في عمله "ليون الأفريقي"، وهذا ما نكتبه هنا لصالح هذه القضية.
ذاكرة حرجة
إن الأديب والكاتب والصحفي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف المولود في 25 فبراير 1949م يحتل مكاناً بارزاً في سماء الكتابة الأدبية عالمياً وعربياً، إذ تتخذ أعماله من الذاكرة الحرجة أصولها ومعالم سردها، فمعلوف يحترف إعادة كتابة التاريخ روائياً، وهو إذ يفعل ذلك لا يقوم بعمليات الرصد والإشارة كما هي في تركيبها التاريخي، بل يعمد بشكل دقيق إلى إعادة الاعتبار للتاريخانية وهي حالة كتابة فوق تاريخية، تستند في الأساس على تاريخ الظاهرة الاجتماعية والفاعلين فيها، ومعلوف الذي عمل بالصحافة حتى العام 1975م، أصدر أول أعماله "الحروب الصليبية كما رآها العرب"عام 1983م، وأعماله ترجمت إلى لغات عديدة، والرجل مهموم بقضية الهوية ولمن يقرأ كتابه "الهويات القاتلة" يقع على ترجمة جديدة لمفهوم الأنا والآخر، بل لم ينس معلوف، ولم يستطع التخلص من عروبته رغم هجرته الباكرة إلى فرنسا واندماجه في المجتمع الأدبي هناك، حتى بات كاتباً فرنسياً بامتياز، وفي ذلك حاز في عام 2010م على جائزة أمير أوسترياس عن مجمل أعماله.
"ليون الأفريقي": صراع الهوية والإنسان الكوني
إن أعمال الأديب أمين معلوف تشير إلى هذه الخصيصة، صراع الهوية وأنسنة الفاعل الاجتماعي، نجد ذلك في روايته "ليون الأفريقي 1984م)" وهي تركيب سردي ماتع يتتبع الظاهرة العربية بشكل حثيث، ويضع يده على التحولات التي جرت في البنية الاجتماعية والروحية، وانعكاس ذلك على مجمل أوضاع العرب وثقافتهم، هويتهم ووجودهم الحضاري، إن "حسن الوزان" بطل هذه الرواية وساردها العليم يقدم لنا بانوراما تاريخية تتكيء نعم على أحداث حقيقية تقع ما بين الأعوام 1489م – 1527م، وهذا الفترة هي التي بدأت بسقوط الأندلس وحتى نهاية رحلة البطل المعلوفي "ليون"، فشهادة الراوي/البطل تقدم لنا أحوال عدة ومواقف وانعطافات مركزية في الظاهرة، حسن بن محمد الوزان ويوحنا – ليون دومديتشي المعمد مسيحياً بيد أحد البابوات، والذي انتهى به المطاف بعد رحلة عجائبية إلى أن يسمى "ليون الأفريقي" نسبة إلى أفريقية وهو الاسم القديم لتونس، والمفارقة تقع أن ابنه الذي ولد في روما عاد بهوية معاكسة وشديدة التباين لمسيرة الرجل، فبات يعرف بـ"ابن الرومي" تعبيراً عن صراع الهويات الذي خاضه الوزان؛ الوزان الذي يعرف نفسه في الرواية : "ولكنني لست من أفريقية ولا من أوروبية، ولا من بلاد العرب، وأعرف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزياني، ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا أي مدينة، ولا أي قبيلة، فأنا بن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعاً" – الرواية صفحة (9)، هذه الهوية المركبة هي روح هذا العمل، هي هوية قاتلة ومحيية في الوقت ذاته، إذ يتعاظم وجود الواحد منها على أنقاض الثانية دون هدمها، ولعل هذا الصراع المكتوم أو المتصالح معه في ثنايا الرواية هو مطلق جاهزيتها في السرد، حسن كان كل شيء، بل لم يكن شيئاً ما، يوما ما، حسن المسلم والمسيحي واللاديني، هو مثال عظيم لكونية الإنسان، هذه الكونية التي إن رغبت في فض اشتباكها وقعت أسيرة الواقع وصيرورته، لقد تمدد في الكون، كونه وزمانه الثقافي الذي عاش فيه، يقول: "ولسوف تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الإيطالية لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي، ولكني لا انتمي إلى أي منها، فأنا لله وللتراب، وإليهما راجع في يوم قريب"- الرواية صفحة (9).
هوية مركبة
إن الهوية المركبة جعلت من الوزان روح عصره، وبيان زمانه، يعصر كل ما يقع عليه وجدانه، يماري، يحتال، يخاتل ويمارس وجوده الواقعي بامتياز، فمنذ ميلاده جرت معركة الهوية، ألم يولد لإمراة تقبع تحت ظل الامتياز الاجتماعي (سيدة حرة) محكوم عليها بالخضوع لأشراط الطبقة، وبين (أمة) ذكية غنجة مرنة تعرف كيف تغوي زوجها، لتتحقق معادلة الطبقة والعرق، إنها (وردة) المسبية ورغم ذلك ملكت امتيازها الخاص بأن جعلت الأب المسنود بالطبقة أيضاً يتنازل لأجلها، بل كانت النقيض المر للأم الحرة بنت العم، لقد عبرت عن عبوديتها وهي طليقة قالت: "نحن نساء غرناطة حريتنا عبودية مستترة، وعبوديتنا حرية بارعة" الرواية ص(15). وقالت أيضاً في معنى تنازع العرق والطبقة "كنت حرة وكانت جارية، ولم يكن الصراع متكافئاً. كان بوسعها أن تستخدم على هواها جميع أسلحة الغواية، وأن تخرج من دون حجاب، وأن تغني وترقص، وتصب الخمر، وتغمز بعينها وتتعرى، في حين كان لزاماً علي بحكم وضعي ألا أتخلى عن وقاري، وألا أظهر كذلك أي اهتمامات بملذات أبيك، وكان يدعوني (بنت العم)".
إن الصراع بين (وردة وسلمى) في أصله صراع عميق الجذور في الهوية العربية، فلو قلبنا دفتر أحوال الدولة العباسية في ثلثها الأول ما فاتنا الوقوع على مباراة الحشمة والتبذل في قصور الخلفاء وذوي الشأن، كان هذا من تجليات الانفتاح الثقافي الذي وجدته الدولة العباسية وارثة الإمبراطورية الفارسية، ومتخذة أدابها بديلا عن تراث مفكك لا يحمل طقوس الملكية والبرتوكولات الطبقية، هو التراث العربي المجرد، إنه عالم الأعرابي (صانع اللغة) كما يسميه المفكر المغربي محمد عابد الجابري، ورغم أن هذا الصراع لم يستمر طويلاً بل نجد أن ثمة تضامن جرى بين السيدتين وبينهما (سارة) اليهودية المبرقشة صاحبت الخبرات الروحية وسمسار الطالع، هذه السيدة لعبت دور الوسيط الأمين بين (سلمى وزوجها)، والتضامن المقصود هذه المرة حدث بموجب وضعية المرأة حرة كانت أم عبدة، قانون المواضعة وغياب التكافؤ، فالنساء في سلم القيم العربية كانوا يقبعون مع الطيبات والملذات أي هن عنصر استهلاكي محض، لكن ما اشتغل عليه معلوف أنه بين لنا ذكورية فجة حدت بالأب أن يعقد سيركا فحوليا يجمع فيه السيدتين ليعرض بضاعته من الأبناء في ثلاجة بشرية دلالة على الفحولة وانتظار المستقبل بالعِزة والمكانة.
أما المدينة فقد كانت تحتضر في صمت، كانت تتآكل من أطرافها بفضل الدسائس والانهيارات، بل وحتى التوقع، هذه المدينة التي ولدت فيها (ليون) باشرته بالطرد والعزلة، ففي ثنايا السقوط تتغرب العائلة، وتذهب إلى فاس المدينة التي تعاني هي الأخرى من صراع هوياتي مرير، فيها اليهودي والعربي والمسيحي، فيها أديان الله تعيش مع بعضها دون علاقة روحية أو سلام، بل كل طرف يتمسك بتناقضاته لا يخرجها إلا عند الأزمات.
هوية متوحشة
إن الهوية التي تقوم الرواية عليها هوية متوحشة، مثلها حسن الوزان في كل مكان ذهب إليه، في فاس اكتشف ملكاته في التدين الفطري، وكذلك اختار أصدقائه الدائمين، حسن في كل مكان، في أفريقيا جنوب الصحراء كانت الممالك السوداء هي التي أهدته عروسه المختارة، هي من اكتشف فيها نفسه، إنسان يحب ويعشق، ورغم أنها مسترقة إلا أن الرجل كان خلوا في خصيصة نفسه من إثم الاسترقاق، فعاملها معاملة جيدة، لم يجر أن عنفها أو حتى جرح مشاعرها، هذه السيدة المهداة ستكون عربون حياته الجديدة وهو في مهربه الدائم، إن هويتها كذلك سوداء جميلة يصح وصفها بالهوية الاختزالية، إذ رغم استرقاقها إلا أنها كانت تحتفظ بالوزان تحت رحمة أنوثتها، إنها رهينة تومبكتو المستعادة في يد حسن الوزان، رهينتها الحرة في بيت الرجل، هذه المملكة التي تسمى جوهرة الصحراء، والتي توالى على حكمها السودان السونغاي ثم إمبراطورية الفولاني ثم الامبراطورية الإسلامية المغربية من السعديين، كانت صورة مخبأة من حضارة العرب في إفريقيا، حضارتهم التي أكلتها الفتن في حواضر المشرق، إذ احتفظت بروح الحضارة العربية في أوج نفوذها، وكانت بحق المدينة الثقافية الكبرى في ذلك العهد، إن تومبكتو التي قدمها لنا معلوف بهية ونضرة وقوية كانت آخر معاقل العروبة الثقافية حينها.