مازن أكثم سليمان

تتصدر كتاب الأستاذ الدكتور منذر عياشي "التأويل وحياكة المعنى" الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول في طبعته الأولى (2019)، مقولة نيتشه الشهيرة: "لا توجد وقائع، ولكن توجد تأويلات فقط".

يناقش المؤلف – أولاً - جذر التأويل القائم بين تعددية كينونات الكائن البشري، وكونه مفردا في خلقه، ثم يناقش -ثانياً- وانطلاقاً من هذا التأسيس، كيفية الانتقال من تعددية التأويلات إلى التأويل المفرد اختياراً.

الإنسان كائن تشكله كينونات عديدة، ولا يستطيع من دونها أن يحقق لنفسه وجوداً، حيث يعيش بهذه الكينونات، ويتحرك عبرها، ويعيد بها صوغ وجوده على الدوام، ذلك أنه كينونة تأويلية، ولغوية، ومعرفية، وثقافية، ونسقية، وفلوت، والرابط الذي يضايف بين جميع هذه الكينونات هو: كينونة التأويل.

كائن تأويلي

تنبع سمة التأويل عند الإنسان من كونه في أصل خلقه كائناً تأويلياً، فهو يؤول لأنه لولا التأويل لما استقر به وله وجود، ولما عرف إلى الوجود سبيلاً، وما يعين هذا الوجود الناجم عن أن الإنسان مفرد في خلقه، متعدد في كينوناته، هو: الإدراك التاويلي؛ فهذا الإدراك هو سبيله لكي يمسك وجوده فرداً ووجوده متعدداً، لذلك يرى الدكتور عياشي -متكئا على ريكور- أن الكائن البشري يدور في مدركين:

1- مدرك حسي ومادي وتجريبي.

2- مدرك عقلي وتصوري.

وبهاتين القوتين الإدراكيتين، ينهض وجود الإنسان بوصفه كائناً تأويلياً؛ إذ يسلك الكائن – وفق ريكور أيضاً - مسلك "صراع التاويلات" بين المدرك حسا والمدرك عقلاً.

ولما كان حضور الإنسان في العالم مفرداً متعدداً، ينبسط التأويل أيضاً مفرداً متعدداً؛ ذلك أنه - أي التاويل - رديف حضور الإنسان في العالم، وكل تأويل للحضور في العالم يحتاج، في إقامة فهمه، إلى تأويل آخر، والتأويل الآخر إلى آخر، وهكذا يسير التأويل في سلسلة لا تنتهي، فضلاً عن أن كل تأويل في السلسلة، يأخذ أشكالاً متعددة للحضور في العالم: الشعر، والحكاية، والأساطير، والطقوس الدينية، والأيديولوجيا،... إلخ.

المتناهي بما لا يتناهى

تطرح تعددية التأويلات مشكلة لا يبدو حلها بديهيا كما يرى المؤلف، حيث إنه إذا كانت الأشياء في تأويلها لا تتناهى، وكان تأويل تأويلاتها، بدوره، لا يتناهى، فكيف نقابل المتناهي بما لا يتناهى؟ وكيف نصل بهذا الذي لا يتناهى إلى ما نريد؟ وكيف يمسك الإدراك بهذا الذي ينسرب أبداً في اللامتناهي، وهو الذي نسعى إلى تحصيله والتحصن به من التيه؟

يعتقد الدكتور عياشي أن الأسئلة السابقة تتسم بقدرة الدفع إلى النظر المحدد للتأويل، وليس إلى النظر المغلق، أو المقفل، أو في النهاية، النظر الطارد للتأويل، وهي الرؤية التي تستدعي مواجهة الأسئلة المحورية الآتية: هل التأويل صراعات، كما يذهب إلى ذلك بول ريكور، أم إن التأويل اختيار، كما يمكن الذهاب إلى ذلك من منظور وظيفي؟ وهل هو إجراء للمفتوح دلالة، أم هو إجراء للممكن دلالة؟ وأخيراً، هل التأويل محدد تكويني للنص، أم هو وجود طارئ على الوجود التكويني للنص؟

يحاول المؤلف أن يجيب عن تساؤلاته وفق الشكل الآتي: يعود أولاً إلى أمبرتو إيكو، في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتأويلية"، فينطلق من قوله المحوري: "العالم نص"، ليقول المؤلف من جهته، وفي مقابل تلك المقولة: "النص عالم".

ثم يتابع في منحاه هذا سعياً إلى بناء أجوبته، فيذهب إلى أن ما يؤهلنا للإحاطة بهذا السيل الجارف من التأويلات وتأويلاتها من دون الغرق فيما لا ينتهي، هو وجود النص بوصفه لغة، ووجود اللغة بوصفها محدداً.

إن لغة النص، أي نص كان، تشتمل على عدد قابل للتعيين من تأويلات الحضور في العالم، كما أنها تشتمل على عدد من المحددات التي يمكن الاتكاء عليها في إنجاز المعنى، والعودة عن المتعدد التأويلي إلى المفرد الاختياري، لبناء الفهم.

الأصل اللغوي للوجود

وهكذا، يعود المؤلف إلى الأصل اللغوي للوجود، والأصل الوجودي للغة، عبر بوابة/ بؤرة (النص/ العالم)، فهذا الذي يؤول، وهذا الذي لكي يؤول، يجعل النص يقول ما يمكن أن يريد قوله فعلاً، كان على الدوام كائناً لغوياً.

إننا نؤول كلمات وجود النص بكلمات وجودِنا، فالإنسان كائن يتساءل، ويسأل الآخرين عما أرادوا، أو عما يريدون قوله في النص، وهو الأمر الذي يتناسب مع نموذج أصلي لعلاقة الإنسان بالعالم.

واستمراراً في الوفاء لفكرة الأصل اللغوي للوجود بوصفه نصا، يستشهد الدكتور عياشي بقول جادامير الآتي: "يشتمل الحدث الهيرمينوطيقي الحقيقي في مجيء الكلام على ما قيل في التقاليد. وهنا يكون بالأحرى من الدقيق أن يقال إن هذا الحدث لا يمثل فعلنا في الشيء، ولكنه يمثل فعل الشيء نفسه"، وبهذا تحل مسألة التساؤل إن كان الوجود التأويلي طارئاً على الوجود التكويني للنص نفسه.

ويعود المؤلف ــ في موضع آخر من كتابه ــ إلى هايدجر لتأصيل توجهاته التأويلية، فالنموذج التقليدي الأصلي الذي يتكئ عليه تأويل أي نص بوصفه وجوداً لغوياً، يكشف عن انفتاح على "الكائن- هنا" والذي هو الكائن الإنساني. فمسألة المعنى ذات طبيعة مختصة بعلم الكائن: إنها تجعل الإنسان كائنا فيه ما يخص الكائن عبر علاقته بالكينونات الأخرى، ولهذا لا يعد الفهم مادة بين مواد أخرى لرؤية العالم؛ إن الفهم "وجودي"، وهو على هذا النحو يصغي إلى سماع المعنى الأصلي لوجودنا الإنساني.

شاعر وناقد سوري