سماهر سيف اليزل
الناشطة والمحامية البحرينية عائشة الشربتي وصاحبة مبادرة "مع اللاجئين"، تأثرت بمشاهد المعاناة والبؤس المتكررة والتي يعيشها اللاجئون في مختلف دول العالم، لم تكتفِ بالتعاطف مع هؤلاء عن بُعد، بل أخذت على عاتقها دون رعاية من أحد، مساعدة اللاجئين الذين أنهكتهم الحرب في وطنهم وما صحبها من دمار.
قررت الشربتي، أخذ زمام المبادرة ونزلت إلى الميدان تبحث عن أفضل السبل لتلبية احتياجاتهم الأساسية والمساهمة بأي وسيلة من الوسائل من خلال مبادرة "مع اللاجئين".
"قانونية تعيش بالقرب من أكبر مخيم لاجئين في العالم، كان القانون شغفها الأول يليه مباشرة شغفها بالتطوع، جمعت بين الاثنين، وباتت امرأة قانونية تعيش بالقرب من أكبر مخيم لاجئين في العالم وهو مخيمات اللاجئين الروهينغا في بنغلاديش".
مشروع "مع اللاجئين" انطلق منذ عدة سنوات لمساعدة اللاجئين العرب في أوروبا ولبنان، ثم انتقل لدعمهم في أحدث مخيمات اللجوء وإحدى أكبرها في العالم وهي مخيمات "الروهينجا " في بنغلاديش.
وأكدت عائشة في حوار مع "الوطن"، أن عدد اللاجئين الذين يحتاجون مد يد العون والمساندة تجاوز 1.5 مليون لاجئ، معتبرة أن تعريف الناس بهذا النوع من المبادرات من شأنه أن يحفز مشاعر الأخوة الإنسانية ويشجع على المشاركة في هذه المبادرات.
وفيما يلي نص اللقاء:
- كيف كانت بدايتك في العمل الإغاثي؟ وما الذي جعلك تخوضين هذا المجال؟
بدايتي كانت مع اشتداد الأزمة السورية في أواخر 2015، بدأت بالكتابة عن الانتهاكات الإنسانية التي كانت تحدث، وعن معاناة الشعب، وعن عملية النزوح التي مات فيها الكثير إما في البحر، أو في محاولته لعبور الحدود.
كانت الحاجة للتخفيف من هذه المعاناة أكبر بكثير من أن يتم إشباعها ببعض كتابات عابرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فقررت أن التواجد بنفسي في أكثر الأماكن حاجة لخدماتي.
كنت قد تخرجت من كلية الحقوق قبل سنتين وما زلت عاطلة عن العمل. حاولت التواصل مع المنظمات الإنسانية من أجل تسهيل عملية تطوعي لمخيمات اللاجئين لكن للأسف لم يتم الرد على اتصالاتي أو رسائلي، فقررت إنشاء مبادرة مع اللاجئين المعنية بمساعدة اللاجئين حول العالم، فكانت الرحلة الأولى، إلى النمسا وتحديداً النمسا، في محطات المترو، كان هناك أكثر من 7 آلاف لاجئ سوري وعراقي عالقون بسبب إغلاق ألمانيا لحدودها وتوقفها عن استقبال المزيد من اللاجئين.
كنا نقدم لهم الوجبات الساخنة التي كانت تعدها أمي، أو المساعدات الأولية من ماء وبطانيات وأدوية، بجانب خدمات الترجمة لتسهيل التواصل بين اللاجئين وموظفي الحكومة النمساوية، كانت رحلتي التطوعية الأولى، وبداية انطلاقة مع اللاجئين.
- هل العمل الإغاثي ثقافة سائدة وموجودة في مجتمعنا الخليجي؟ وكيف ترين الشباب في العمل الإغاثي
الآن قبل أي وقت مضى بات الخليجي يعرف ويفهم ويقدر ثقافة التطوع والمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين، لم تعد الكوارث والمآسي التي تحدث في مكان آخر لا تعنينا، فمصير البشرية واحد، وما يؤلم إنسان آخر.. يؤلمني أنا أيضاً ولو كنت في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، ربما تكون هذه القفزة متأخرة نوعاً ما، لكن أن تأتي متأخرة أفضل بكثير من أن لا تأتي.
أغلب المتطوعين من الشباب الشغوفين الذين يبحثون عن خطواتهم الأولى في مجال العمل الإنساني. قابلت الكثير من الشباب الذين يقضون إجازاتهم الصيفية في المخيمات من أجل الحصول على فرص أكبر للعمل في هذا المجال بعد التخرج.. وهذا حقيقة يثلج الصدر ويفرح القلب
- كيف غيرك العمل الإغاثي؟ وما هي أوجه التغيير تلك؟
العمل التطوعي جعلني إنسانة أكثر انفتاحاً على الطرف الآخر ومعاناة الطرف الآخر واختلافاته، جعلني أكثر تقبلاً ووضوحاً وخفة ومسؤولية، وأكثر إقبالاً على الحياة.
العمل التطوعي رسخ بداخلي معنى أن يكون الإنسان إنساناً، والتضحيات التي ترافق هذا الطريق الذي لا يمشي فيه الكثير، علمني أن أتصرف بحكمة، وأن أفلسف المشكلة وأمنطق الحل، وبأن الحياة قصيرة جداً وأن لا شيء يظل على ما هو عليه للأبد، وأن بقاء الحال من المحال وأن الإنسان لا يملك هذه اللحظة التي لن تتكرر أبداً.
التغيير حدث في كل جوانب شخصيتي الفكرية، الروحانية، وحتى المهنية والحياتية.
كنت فيما مضى أبحث عن المناصب والمسميات، اليوم أنا أبحث عن نفسي في المجال الإنساني الإغاثي، اليوم لا تغرني بهرجة الأشياء، ولا الأمور الكمالية، ولا الصورة التي يود الجميع أن يراني عليها.. لأنني بكل بساطة منشغلة بذاتي وبحياتي وبأن أكون ناجحة وراضية ومكتفية دون الالتفات لكلمات التحبيط وتثبيط الهمة، ففي نهاية المطاف العمر مرة، ولا أحد سيعيش عمري غيري.. وعمري إذا سألني الله بما أفنيته، أتمنى أن يرزقني إجابة "في الخير وفي خدمة الناس".
- أبرز المواقف المحفورة بذاكرتك؟
على الحدود النمساوية الهنجارية، في رحلتي التطوعية الأولى قابلت رجلاً كان لونه أزرق. لا أبالغ بوصفي للون جلده فقد كان أزرق لا تستطيع أن تخطئي زرقته! سألته ما خطبك؟؟ لأنه كان يبدو متعباً بشكل لا يوصف.
لم يجبني، لكنه أزاح سترته ورفع كنزته التي كان يلبسها تحت السترة ليكشف لي عن جانبه الأيسر من جسده حيث كان هناك جرح طويل يمتد من تحت إبطه الأيسر حتى خاصرته.
بعد أن أخذناه العيادة الطبية، وبعد الكشف عليه اتضح أنه تم سرقة كليته اليسرى من قبل تجار الأعضاء أثناء عبوره الغابة الهنجارية حين كان يغفو ليلاً. وبعد أسبوعين في العناية المركزة تشافى، والآن هو بصحة وعافية.
القصة الثانية كانت في جزيرة ليسبوس اليونانية، حين كنا نستقبل اللاجئين الذين يصلون إلى اليونان على قوارب مطاطية من تركيا..كانت القوارب المطاطية تسع لـ50 شخصاً، لكنها كانت تصلنا محملة بأكثر من 60 شخصاً أحياناً بالإضافة إلى الأطفال والأغراض.
في أحد الأيام، استقبلنا قارباً مطاطياً عند الخامسة فجراً. وحين اقتربنا من المركب، مد لنا أحدهم بطفل مولود للتو وجسده مازال مغلفاً بالدماء. حملته إحدى المتطوعات وركضت به إلى العيادة.
وحين عدت للمركب لمساعدة اللاجئين على النزول منه، اكتشفنا بأن إحدى اللاجئات ولدت في منتصف البحر دون أي مساعدة أو مخففات للألم وأنها للأسف بعد الولادة نزفت حتى الموت..كانت جثتها في آخر القارب المطاطي وزوجها يجلس بالقرب منها يبكي.
- كيف تخدم وسائل التواصل الاجتماعي هذا المجال؟ وهل ترين أنها توصل الرسائل المطلوبة؟ وهل باتت هي المنصة لنشر العمل الإنساني؟
وسائل التواصل الاجتماعي قربت البعيد، وربطت أشخاصاً ببعضهم، وسهلت عملية تبادل الخبرات والتواصل مع أصحاب الاختصاص وسرعت الحصول على المعلومات وأماكن الأزمات وتوافر الحاجة للمساعدة، ولا ننسى أيضاً دورها في التوثيق وتوصيل المعلومات وزيادة الوعي وجمع التبرعات والتواصل مع الجمهور.
الآن، الأشخاص يميلون للثقة بأفراد أكثر من جهات، ولا أسهل من وسائل التواصل الاجتماعي في ردم هذه الفجوة وتقريب الأشخاص أصحاب الذوق المشترك والاهتمام المشترك.
أغلب المتطوعين الذين ساعدونا منذ تأسيس المبادرة هم من متابعيني على وسائل التواصل الاجتماعي ومعظمهم باتوا أصدقائي المقربين.
ما الرسالة التي تحملينها خلال العمل الإغاثي؟
رسالتي واحدة وبسيطة، أنا امرأة عربية مسلمة تؤمن بأنها ابنة هذه الأرض وبأن جميع شعوب الأرض أهلها. ومن هذا المنطلق، أنا في رحلة دائمة لمساعدة منكوبي الحرب واللاجئين والنازحين والنساء المعنفات والأقليات.
في رحلاتي أحياناً حين يلومني البعض على عدم مساعدة الآخرين لهم أقول: أنا هنا الآن، أغطي غياب الجميع، وربما هذا يكفي ليشعر الإنسان بأن هناك من يهتم لمعاناته وإن لم يلتفت العالم أجمع له.
- أبرز ما رأيته في مخيمات اللاجئين المختلفة
رأيت تغير الحال، فهمت معنى أن يترك أحدهم عائلته وراءه لينجو بنفسه ثم يحاول إنقاذهم، اختبرت الكثير من مبادئي وقيمي، وعرفت معادن الأشخاص حولي حين عرفوا أنني اتخذت من هذا الطريق نهج حياة.
رأيت الطفولة تغتصب، والنساء يعملن بجهد مضاعف لتوفير حياة كريمة لأطفالهن، رأيت رجالاً يبكون قهراً، وأطفالاً كبروا بلا بيت ولا سقف ولا وطن.
رأيت أيضاً الرحمة والحسنة والترابط والتضحية، رأيت الرغبة في الحياة والتمسك بالغد الأفضل والقدرة على البدء من جديد، رأيت الأمل يولد مع كل ولادة جديدة وأشخاصاً يتخطون آلامهم بالضحك، وفهمت أن لا شيء يستحق في هذه الحياة، وبأن هناك مشاكل أكبر من همومي.
- من وحي تجربتك..هل نجحت المرأة بوضع بصمة في هذا المجال؟
نعم بالتأكيد، فأغلب المتطوعين نساء، وأغلب العاملين في المجال الإنساني هن نساء، ومعظم المتطوعين في الكوارث والأزمات في المهمات الإغاثية يكن نساء، والمرأة أثبتت جدارتها منذ وقت طويل في كل شيء، وهذا المجال لم يكن سوى سهم آخر يضاف إلى رصيدها، "يقال دائماً كنوع من الاستهزاء بأن المرأة عاطفية، وأنا فخورة ملء هذا الأرض بأننا كذلك، وإلا لخلت الساحة من المتطوعات والعاملات اللاتي يعطين من قلبهن، لأنه أكثر من مهمة أو مجرد عمل بالنسبة لهن" .
- المهام التي تقومين بها في البعثات الإغاثية ؟
الاستشارات القانونية في مجال الحماية الدولية، كتابة التقارير بخصوص الانتهاكات الإنسانية للحرب وفي مخيمات اللاجئين، أساهم في دراسات معنية بحال المرأة اللاجئة، ترجمة التقارير الرسمية من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، أدرب المتطوعين على كيفية التعامل مع الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، وضع خطط طوارئ، إغاثة، أو إعادة تأهيل، تنظيم رحلات تطوعية لمخيمات اللاجئين، القيام بمقابلات مع ضحايا الحرب من أجل التوثيق وخاصة قصص النساء، القيام بمشاريع إنسانية (مدارس، مراكز اجتماعية، عيادات طبية، دورات مياه، آبار مياه، دار أيتام).
- حدثينا عن العمل الإغاثي في ظل ظروف كورونا وأبرز التحديات؟
حقيقة، كورونا أوقفت عملنا بشكل شبه كامل، فالدوائر الحكومية مغلقة، ولا نستطيع تجديد تراخيص دخولنا للمخيم، وأصبح دخول المخيم مقتصراً على العاملين في المجال الطبي، وجميع مشاريعنا توقفت، والمدارس كذلك والمراكز الاجتماعية التي كنا نقدم فيها بعض الدورات التي تستفيد منها النساء مثل الإسعافات الطبية وطرق الدفاع عن النفس وما شابه.
عملنا يقتصر الآن على التواصل الإلكتروني ومحاولة العمل عن بُعد.. لكنني أعترف بأنه لا يسمى عملاً من ناحية الإنجاز والرضاء الذاتي.
- كلمة أخيرة..
الحياة أقصر من أن تعيشها في مكان واحد، وأقصر من أن يدوم أي شيء، وأسهل مما تظن، وبأن الإنسان لا يحتاج الكثير ليكون سعيداً وراضياً.. وبأن أسرع الطرق وأجملها هو فعل الخير من أجل الله أولاً ومن أجل ذاتك ثانياً ومن أجل المحتاج ثالثاً.
وعلينا أن نتذكر دائماً بأننا لا نتفضل على الآخر من خلال تقديمنا المساعدة له، على العكس علينا أن نكون ممتنين للفرصة التي سخرها الله لنا لنكون أشخاصاً أفضل ونساعد..."الخير يلف معطيه أكثر من مستقبله".
الناشطة والمحامية البحرينية عائشة الشربتي وصاحبة مبادرة "مع اللاجئين"، تأثرت بمشاهد المعاناة والبؤس المتكررة والتي يعيشها اللاجئون في مختلف دول العالم، لم تكتفِ بالتعاطف مع هؤلاء عن بُعد، بل أخذت على عاتقها دون رعاية من أحد، مساعدة اللاجئين الذين أنهكتهم الحرب في وطنهم وما صحبها من دمار.
قررت الشربتي، أخذ زمام المبادرة ونزلت إلى الميدان تبحث عن أفضل السبل لتلبية احتياجاتهم الأساسية والمساهمة بأي وسيلة من الوسائل من خلال مبادرة "مع اللاجئين".
"قانونية تعيش بالقرب من أكبر مخيم لاجئين في العالم، كان القانون شغفها الأول يليه مباشرة شغفها بالتطوع، جمعت بين الاثنين، وباتت امرأة قانونية تعيش بالقرب من أكبر مخيم لاجئين في العالم وهو مخيمات اللاجئين الروهينغا في بنغلاديش".
مشروع "مع اللاجئين" انطلق منذ عدة سنوات لمساعدة اللاجئين العرب في أوروبا ولبنان، ثم انتقل لدعمهم في أحدث مخيمات اللجوء وإحدى أكبرها في العالم وهي مخيمات "الروهينجا " في بنغلاديش.
وأكدت عائشة في حوار مع "الوطن"، أن عدد اللاجئين الذين يحتاجون مد يد العون والمساندة تجاوز 1.5 مليون لاجئ، معتبرة أن تعريف الناس بهذا النوع من المبادرات من شأنه أن يحفز مشاعر الأخوة الإنسانية ويشجع على المشاركة في هذه المبادرات.
وفيما يلي نص اللقاء:
- كيف كانت بدايتك في العمل الإغاثي؟ وما الذي جعلك تخوضين هذا المجال؟
بدايتي كانت مع اشتداد الأزمة السورية في أواخر 2015، بدأت بالكتابة عن الانتهاكات الإنسانية التي كانت تحدث، وعن معاناة الشعب، وعن عملية النزوح التي مات فيها الكثير إما في البحر، أو في محاولته لعبور الحدود.
كانت الحاجة للتخفيف من هذه المعاناة أكبر بكثير من أن يتم إشباعها ببعض كتابات عابرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فقررت أن التواجد بنفسي في أكثر الأماكن حاجة لخدماتي.
كنت قد تخرجت من كلية الحقوق قبل سنتين وما زلت عاطلة عن العمل. حاولت التواصل مع المنظمات الإنسانية من أجل تسهيل عملية تطوعي لمخيمات اللاجئين لكن للأسف لم يتم الرد على اتصالاتي أو رسائلي، فقررت إنشاء مبادرة مع اللاجئين المعنية بمساعدة اللاجئين حول العالم، فكانت الرحلة الأولى، إلى النمسا وتحديداً النمسا، في محطات المترو، كان هناك أكثر من 7 آلاف لاجئ سوري وعراقي عالقون بسبب إغلاق ألمانيا لحدودها وتوقفها عن استقبال المزيد من اللاجئين.
كنا نقدم لهم الوجبات الساخنة التي كانت تعدها أمي، أو المساعدات الأولية من ماء وبطانيات وأدوية، بجانب خدمات الترجمة لتسهيل التواصل بين اللاجئين وموظفي الحكومة النمساوية، كانت رحلتي التطوعية الأولى، وبداية انطلاقة مع اللاجئين.
- هل العمل الإغاثي ثقافة سائدة وموجودة في مجتمعنا الخليجي؟ وكيف ترين الشباب في العمل الإغاثي
الآن قبل أي وقت مضى بات الخليجي يعرف ويفهم ويقدر ثقافة التطوع والمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين، لم تعد الكوارث والمآسي التي تحدث في مكان آخر لا تعنينا، فمصير البشرية واحد، وما يؤلم إنسان آخر.. يؤلمني أنا أيضاً ولو كنت في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، ربما تكون هذه القفزة متأخرة نوعاً ما، لكن أن تأتي متأخرة أفضل بكثير من أن لا تأتي.
أغلب المتطوعين من الشباب الشغوفين الذين يبحثون عن خطواتهم الأولى في مجال العمل الإنساني. قابلت الكثير من الشباب الذين يقضون إجازاتهم الصيفية في المخيمات من أجل الحصول على فرص أكبر للعمل في هذا المجال بعد التخرج.. وهذا حقيقة يثلج الصدر ويفرح القلب
- كيف غيرك العمل الإغاثي؟ وما هي أوجه التغيير تلك؟
العمل التطوعي جعلني إنسانة أكثر انفتاحاً على الطرف الآخر ومعاناة الطرف الآخر واختلافاته، جعلني أكثر تقبلاً ووضوحاً وخفة ومسؤولية، وأكثر إقبالاً على الحياة.
العمل التطوعي رسخ بداخلي معنى أن يكون الإنسان إنساناً، والتضحيات التي ترافق هذا الطريق الذي لا يمشي فيه الكثير، علمني أن أتصرف بحكمة، وأن أفلسف المشكلة وأمنطق الحل، وبأن الحياة قصيرة جداً وأن لا شيء يظل على ما هو عليه للأبد، وأن بقاء الحال من المحال وأن الإنسان لا يملك هذه اللحظة التي لن تتكرر أبداً.
التغيير حدث في كل جوانب شخصيتي الفكرية، الروحانية، وحتى المهنية والحياتية.
كنت فيما مضى أبحث عن المناصب والمسميات، اليوم أنا أبحث عن نفسي في المجال الإنساني الإغاثي، اليوم لا تغرني بهرجة الأشياء، ولا الأمور الكمالية، ولا الصورة التي يود الجميع أن يراني عليها.. لأنني بكل بساطة منشغلة بذاتي وبحياتي وبأن أكون ناجحة وراضية ومكتفية دون الالتفات لكلمات التحبيط وتثبيط الهمة، ففي نهاية المطاف العمر مرة، ولا أحد سيعيش عمري غيري.. وعمري إذا سألني الله بما أفنيته، أتمنى أن يرزقني إجابة "في الخير وفي خدمة الناس".
- أبرز المواقف المحفورة بذاكرتك؟
على الحدود النمساوية الهنجارية، في رحلتي التطوعية الأولى قابلت رجلاً كان لونه أزرق. لا أبالغ بوصفي للون جلده فقد كان أزرق لا تستطيع أن تخطئي زرقته! سألته ما خطبك؟؟ لأنه كان يبدو متعباً بشكل لا يوصف.
لم يجبني، لكنه أزاح سترته ورفع كنزته التي كان يلبسها تحت السترة ليكشف لي عن جانبه الأيسر من جسده حيث كان هناك جرح طويل يمتد من تحت إبطه الأيسر حتى خاصرته.
بعد أن أخذناه العيادة الطبية، وبعد الكشف عليه اتضح أنه تم سرقة كليته اليسرى من قبل تجار الأعضاء أثناء عبوره الغابة الهنجارية حين كان يغفو ليلاً. وبعد أسبوعين في العناية المركزة تشافى، والآن هو بصحة وعافية.
القصة الثانية كانت في جزيرة ليسبوس اليونانية، حين كنا نستقبل اللاجئين الذين يصلون إلى اليونان على قوارب مطاطية من تركيا..كانت القوارب المطاطية تسع لـ50 شخصاً، لكنها كانت تصلنا محملة بأكثر من 60 شخصاً أحياناً بالإضافة إلى الأطفال والأغراض.
في أحد الأيام، استقبلنا قارباً مطاطياً عند الخامسة فجراً. وحين اقتربنا من المركب، مد لنا أحدهم بطفل مولود للتو وجسده مازال مغلفاً بالدماء. حملته إحدى المتطوعات وركضت به إلى العيادة.
وحين عدت للمركب لمساعدة اللاجئين على النزول منه، اكتشفنا بأن إحدى اللاجئات ولدت في منتصف البحر دون أي مساعدة أو مخففات للألم وأنها للأسف بعد الولادة نزفت حتى الموت..كانت جثتها في آخر القارب المطاطي وزوجها يجلس بالقرب منها يبكي.
- كيف تخدم وسائل التواصل الاجتماعي هذا المجال؟ وهل ترين أنها توصل الرسائل المطلوبة؟ وهل باتت هي المنصة لنشر العمل الإنساني؟
وسائل التواصل الاجتماعي قربت البعيد، وربطت أشخاصاً ببعضهم، وسهلت عملية تبادل الخبرات والتواصل مع أصحاب الاختصاص وسرعت الحصول على المعلومات وأماكن الأزمات وتوافر الحاجة للمساعدة، ولا ننسى أيضاً دورها في التوثيق وتوصيل المعلومات وزيادة الوعي وجمع التبرعات والتواصل مع الجمهور.
الآن، الأشخاص يميلون للثقة بأفراد أكثر من جهات، ولا أسهل من وسائل التواصل الاجتماعي في ردم هذه الفجوة وتقريب الأشخاص أصحاب الذوق المشترك والاهتمام المشترك.
أغلب المتطوعين الذين ساعدونا منذ تأسيس المبادرة هم من متابعيني على وسائل التواصل الاجتماعي ومعظمهم باتوا أصدقائي المقربين.
ما الرسالة التي تحملينها خلال العمل الإغاثي؟
رسالتي واحدة وبسيطة، أنا امرأة عربية مسلمة تؤمن بأنها ابنة هذه الأرض وبأن جميع شعوب الأرض أهلها. ومن هذا المنطلق، أنا في رحلة دائمة لمساعدة منكوبي الحرب واللاجئين والنازحين والنساء المعنفات والأقليات.
في رحلاتي أحياناً حين يلومني البعض على عدم مساعدة الآخرين لهم أقول: أنا هنا الآن، أغطي غياب الجميع، وربما هذا يكفي ليشعر الإنسان بأن هناك من يهتم لمعاناته وإن لم يلتفت العالم أجمع له.
- أبرز ما رأيته في مخيمات اللاجئين المختلفة
رأيت تغير الحال، فهمت معنى أن يترك أحدهم عائلته وراءه لينجو بنفسه ثم يحاول إنقاذهم، اختبرت الكثير من مبادئي وقيمي، وعرفت معادن الأشخاص حولي حين عرفوا أنني اتخذت من هذا الطريق نهج حياة.
رأيت الطفولة تغتصب، والنساء يعملن بجهد مضاعف لتوفير حياة كريمة لأطفالهن، رأيت رجالاً يبكون قهراً، وأطفالاً كبروا بلا بيت ولا سقف ولا وطن.
رأيت أيضاً الرحمة والحسنة والترابط والتضحية، رأيت الرغبة في الحياة والتمسك بالغد الأفضل والقدرة على البدء من جديد، رأيت الأمل يولد مع كل ولادة جديدة وأشخاصاً يتخطون آلامهم بالضحك، وفهمت أن لا شيء يستحق في هذه الحياة، وبأن هناك مشاكل أكبر من همومي.
- من وحي تجربتك..هل نجحت المرأة بوضع بصمة في هذا المجال؟
نعم بالتأكيد، فأغلب المتطوعين نساء، وأغلب العاملين في المجال الإنساني هن نساء، ومعظم المتطوعين في الكوارث والأزمات في المهمات الإغاثية يكن نساء، والمرأة أثبتت جدارتها منذ وقت طويل في كل شيء، وهذا المجال لم يكن سوى سهم آخر يضاف إلى رصيدها، "يقال دائماً كنوع من الاستهزاء بأن المرأة عاطفية، وأنا فخورة ملء هذا الأرض بأننا كذلك، وإلا لخلت الساحة من المتطوعات والعاملات اللاتي يعطين من قلبهن، لأنه أكثر من مهمة أو مجرد عمل بالنسبة لهن" .
- المهام التي تقومين بها في البعثات الإغاثية ؟
الاستشارات القانونية في مجال الحماية الدولية، كتابة التقارير بخصوص الانتهاكات الإنسانية للحرب وفي مخيمات اللاجئين، أساهم في دراسات معنية بحال المرأة اللاجئة، ترجمة التقارير الرسمية من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، أدرب المتطوعين على كيفية التعامل مع الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، وضع خطط طوارئ، إغاثة، أو إعادة تأهيل، تنظيم رحلات تطوعية لمخيمات اللاجئين، القيام بمقابلات مع ضحايا الحرب من أجل التوثيق وخاصة قصص النساء، القيام بمشاريع إنسانية (مدارس، مراكز اجتماعية، عيادات طبية، دورات مياه، آبار مياه، دار أيتام).
- حدثينا عن العمل الإغاثي في ظل ظروف كورونا وأبرز التحديات؟
حقيقة، كورونا أوقفت عملنا بشكل شبه كامل، فالدوائر الحكومية مغلقة، ولا نستطيع تجديد تراخيص دخولنا للمخيم، وأصبح دخول المخيم مقتصراً على العاملين في المجال الطبي، وجميع مشاريعنا توقفت، والمدارس كذلك والمراكز الاجتماعية التي كنا نقدم فيها بعض الدورات التي تستفيد منها النساء مثل الإسعافات الطبية وطرق الدفاع عن النفس وما شابه.
عملنا يقتصر الآن على التواصل الإلكتروني ومحاولة العمل عن بُعد.. لكنني أعترف بأنه لا يسمى عملاً من ناحية الإنجاز والرضاء الذاتي.
- كلمة أخيرة..
الحياة أقصر من أن تعيشها في مكان واحد، وأقصر من أن يدوم أي شيء، وأسهل مما تظن، وبأن الإنسان لا يحتاج الكثير ليكون سعيداً وراضياً.. وبأن أسرع الطرق وأجملها هو فعل الخير من أجل الله أولاً ومن أجل ذاتك ثانياً ومن أجل المحتاج ثالثاً.
وعلينا أن نتذكر دائماً بأننا لا نتفضل على الآخر من خلال تقديمنا المساعدة له، على العكس علينا أن نكون ممتنين للفرصة التي سخرها الله لنا لنكون أشخاصاً أفضل ونساعد..."الخير يلف معطيه أكثر من مستقبله".