محمد أبو حسين
يعتبر قوام القاضي ومكانته في القضاء الإداري من أبرز المقامات، نظراً لما يتمتع به من سلطة ودور إيجابي في الرقابة على مشروعية قرارات الإدارة واحترامها لسيادة القانون وتحقيق أغراضه التي استهدفها المشرع ومنع الجهة الإدارية من الخروج على سياج المشروعية.

ومن هنا أطلق الفقه والقانون الإداري على القاضي الإداري اسم «حارس المشروعية»، ويعتبر هذا المفهوم من أكثر المفاهيم إثارة للجدل قضائياً وفقهياً، إذ كان ولا يزال غير متفق على تحديده وبيان مجاله، ولا زالت الدراسات الفقهية تتناوله بمضامين وعناوين مختلفة، مثل الرقابة على المشروعية والرقابة على الملاءمة، لا سيما أن الملاءمة تتصل بأهم امتياز من امتيازات الإدارة ألا وهو امتياز السلطة التقديرية، فإن كان من المتفق عليه أن القاضي الإداري يمارس رقابته على تصرفات الإدارة ومدى مطابقتها للقانون، فإن المسألة تصبح محل نقاش واختلاف إذا اتصلت بسلطة القاضي الإداري في الرقابة على الملاءمة التي تجريها الإدارة حسب السلطة التقديرية الممنوحة لها، وحسب وظيفتها المنوطة بها دستورياً.

وهذا النوع الأخير من الرقابة قد شهد ولا يزال يشهد تطورات كبيرة، وتمثل طفرة نوعية في الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، إذ إنها تمثل جهد القاضي الإداري وعمله الدؤوب من أجل توفير حماية قانونية للأفراد أمام احتمالات تعسف الإدارة، كما في القضاء الدستوري وقضاء الاتحاد الأوروبي.

ولقد ساد مبدأ القاضي الإداري كقاضٍ للمشروعية، دراسات القانون الإداري بشكل واسع، ويعتبر مبدأ المشروعية ومفهومها، والموضوع الذي تدور حوله رقابة المشروعية، هو القرار الإداري وأوجهه لا مشروعيته، هذه الأوجه التي تمثل الأسباب التي يعتمدها القضاء في بحث مشروعية القرار الإداري من عدمه، وهذه المفاهيم القانونية التي سادت الرقابة على القرار الإداري والتي نتجت عن سيادة هذا المبدأ، والتي أصبحت فيما بعد، ومع تطور العمل الإداري وتقدمه عائقاً في ممارسة القضاء الإداري لدوره الفعّال، فما كان أمام القاضي إلا أن يطوّر هذه المفاهيم ويخرج عن معناها التقليدي في مجال المشروعية، على الرغم من خطورة الموضوع وخروجه عن بعض المفاهيم التي ارتبطت برقابة المشروعية.

ولم يكتفِ القاضي الإداري هنا بالخروج عن المفاهيم التقليدية للرقابة على المشروعية، بل ذهب بشكل يمكن أن نطلق عليه ثورة في مجال الرقابة القضائية إلى بحث المجال الذي مثّل ولوقت طويل الساحة الرّحبة لإعمال الإدارة وإرادتها وتقديرها من غير معقّب عليها، وهي مبدأ الملاءمة، وصار القاضي يخوض فيها ولكن بشكل حذر غير متسرع، تحسباً من اتهامه بالحلول محل الإدارة، وتجنباً للقول بنشوء حكومة القضاء، وبدأ بالرقابة على الوجود المادي للوقائع التي ادعتها الإدارة، ومن ثم تكييفها، وبحث التّناسب بين محل القرار والوقائع التي ادعتها الإدارة.

ثم جاءت الوسائل التي اعتمدها القضاء في ممارسة الرقابة على الملاءمة في القرارات الإدارية، والتي تعد أحدث رقابة توصل إليها القضاء الإداري سواء في الرقابة على تكييف الوقائع التي تشكل ركن السبب أو في تناسب تلك الوقائع مع المحل، وأخيراً رقابة الموازنة بين منافع القرار وأضراره لتصل بذلك الرقابة القضائية إلى أعلى درجاتها ولتمثل تحولاً نوعياً في الخروج على كل المفاهيم التي سادت منذ نشأة القضاء الإداري وإلى حين ظهور هذه النظرية.