سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه ..شاهد على العصر...وتاريخ إنساني يمشي على الأرض... يفيض عقله بالحكمة... وينطق لسانه بالحق...وينبض قلبه بالخير والمحبة...هي الدنيا منذ خلقها الله... يكتنفها الرحيل الذي يجدده ديدن الحياة حين يُطْبِق بكل قوته على الأحياء... فالرحيل حالة ملازمة للحياة عبر دورة الزمان... وكل مافي هذا الكون محكوم برحلة الولادة والفناء... وكذا حال الإنسان فهو رحلة معقودة بين الولادة في المكان والرحيل عند حد الزمان الذي يقره خالق الأكوان؛ «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ*» (سورة الرحمن).
لكن رغم الموت تبقى هناك حياة تولد من الرحيل ذاته، وذلك حين يُدفن في جوفه ما هو ضدُّه... لتُشَكَّل أعظم المترادفات، وأشدها رسوخاً واستعصاءً على التغيير وذلك بعد عمر طويل... يتجلى على درب الحياة الممتدة حبلاً معقوداً ما بين المهد واللحد.
وكل نفس طيبة تفارق الحياة تترك بقاءً خالداً يعكس إنسانية الحياة التي عاشتها والنابعة من إيمانها بالخير درباً تدرجه في معارج الحياة، لتعزز هذا البقاء بجميل الأثر وتؤبد وجودها بين الناس بحسن أعمالها التي ستبقى ترمز إليها حين تدور العجلة، وتستمر السلسلة بعد أن يقع القدر وتلجُ هذه النفس بوابات الفَناء الكامن في كيان الحياة.
ويعد المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الوالد الشيخ عبد الله بن خالد بن علي آل خليفة طيب الله ثراه تجسيداً للنفس الزكية الطيبة التي تركت بالغ الأثر الباقي أبداً وذلك بعد رحيله في الـ21 من شهر رمضان من العام 1439هـ الموافق لـ 5 يونيو من العام 2018م، حين فقدت مملكة البحرين برحيله واحداً من أبرز قاماتها المخلصين الذين أفنوا حياتهم في خدمة بلادهم بكل ود ووفاء، وذلك من خلال الدور الكبير والرائد الذي اضطلع به سموه رحمه الله على مدى عقودٍ من عمره قدّم فيها جل وقته وجهده بإخلاص ومسؤولية ليُخلِّف رحمه الله أثراً خالداً يتجلى من خلال سيرة نموذجية حافلة بالخير والعطاء والعمل الجاد، ترك فيها بصمات تاريخية مشهودة، ومآثر طيبة محمودة في مجالات متعددة؛ كالقضاء والإدارة والعمل الإنساني والدعوة إلى العطاء وفعل الخيرات وهو ما جعل سموه يحظى بمكانة وطنية واجتماعية ودينية رفيعة أكسبته حب وتقدير الجميع واحترامهم.
كما كان سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله أيضاً من أبرز الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية التي عرفها تاريخ البحرين الحضاري والفكري والثقافي، فقد كانت شخصيته المحببة موسوعة تجمع بين جنباتها سلاسة الحديث وفصاحة اللسان وواسع المعرفة وتعدد المواهب وبُعد النظر، كما وعُرف رحمه الله أيضاً ببلاغة الخطاب وحسن الكلام، فضلاً عن كرم أخلاقه وتواضعه للّه، وذلك إلى جانب فطنته وقدرته الفذة على معالجة أصعب القضايا وإيجاد البدائل والحلول بروية وحنكة ودراية، وهو الأمر الذي جعل منه شخصية تقع محل احترام وتقدير جميع أهل البحرين وكافة من تعامل معه رحمه الله.
واستكمالاً لما سبق فقد سعى سموه طيب الله ثراه إلى زيادة ثقافته وعلمه ومعرفته الذاتية بزيادة اطلاعه وقراءته للكتب التي تختص بالتاريخ والأدب بشكل خاص، وذلك إلى جانب الكتب الثقافية والفكرية بشكل عام، وهو الأمر الذي أثرى شخصيته وجعل منه أحد أهم أعلام الفكر والمعرفة ومن المتبحرين في علوم الشعر واللغة والفقه والدين والتاريخ والتدوين، وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تولي سموه مختلف المناصب الحكومية، فضلًا عن تأسيسه لعدد من الوزارات والمؤسسات والمراكز الحكومية.
وقد ساهم سمو الشيخ عبدالله رحمه الله أيضاً بدور كبير في تفعيل العمل الثقافي في البحرين وتطويره وذلك من خلال إصداره لعدد من المجلات والدوريات الموثقة والمحكمة، ومنها مجلة «الهداية» التي صدر العدد الأول منها في فبراير من العام 1978م وهي مجلة شهرية إسلامية، وقد تولى سموه رئاسة تحريرها وذلك أثناء توليه لمنصب وزير العدل والشؤون الإسلامية.
وفي العام 1978م أسندت إلى سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله مهمة تأسيس ورئاسة مركز الوثائق التاريخية التابع لديوان سمو ولي العهد آنذاك، والذي كان لوالدي الدكتور علي أباحسين رحمه الله شرف المشاركة والعمل مع سموه في هذا المركز المتخصص والعريق الذي أصبح بفضل جهود سمو الشيخ عبدالله طيب الله ثراه ومثابرته قلب البحرين التاريخي وإرثها المدون وحضارتها العريقة التي تستند على ما يزيد عن الـ70 ألف وثيقة تاريخية تختص بشؤون البحرين وتاريخها وشعبها وعاداتها وتقاليدها، وقد بذل سموه حينها جهوداً ملحوظة لتأسيس مكتبة تابعة للمركز، حيث نشطت هذه المكتبة في جمع العديد من الوثائق والمخطوطات التاريخية والخرائط القديمة المتعلقة بالبحرين خاصة وبمنطقة الخليج العربي عامة، كما وتم تزويدها بعدد كبير من الكتب والموسوعات المختصة في مجال الوثائق والبحوث وكتب التاريخ، وكل ما يتعلق بشأنها...
وفي شهر يوليو من العام 1982م أصدر مركز الوثائق التاريخية العدد الأول من مجلة «الوثيقة» النصف سنوية المحكمة والتي تعد إحدى أهم وأبرز المجلات التاريخية المتخصصة التي تصدر في الوطن العربي، وقد تولى سمو الشيخ عبدالله رئاسة تحريرها بنفسه...
وبهذه المناسبة فقد كان لصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه والذي كان جلالته حينها ولياً للعهد كلمة بعنوان «هذه المجلة» جاء فيها: «هذه المجلة باب نرجو أن نطل منه على ماضينا وحاضرنا على السواء، وهي حلقة من جهد متواصل وشاق للجنة مركز الوثائق التاريخية ممثلة في رئيسها وأعضائها والعاملين فيها، وهي بعد ذلك خطوة على طريق ممتد تنطلق عليه دولتنا الحبيبة بكل قوة وعزم نحو غدها المأمول بإذن الله»...
كما وعبرت المقالة الافتتاحية للعدد الأول من المجلة والتي جاءت بقلم سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة عن بعض الأهداف المطلوب إنجازها من خلال إصدار هذه المجلة بقوله: «لقد أردنا لهذه المجلة أن تكون ندوة مفتوحة تقام كل ستة شهور، وهي ندوة نرجو أن يدور فيها النقاش علمياً ومتجرداً حول ما يطرح من موضوعات حتى تتاح لكل من أراد الفرصة للإدلاء برأيه من أجل وضع مزيد من النقاط فوق بعض الحروف، ونحن نعلن ابتداءً أن كل ما يصل إلينا من آراء سوف يستقبل بقلب مفتوح وعقل مفتوح»...
وإلى جانب ما سبق، فقد كان لسموه رحمه الله أيضاً دور واضح في الإصلاحات التي شملت البحرين في عهد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله، وذلك حين تسلم سموه رئاسة لجنة إعداد وصياغة الميثاق الوطني ثم رئاسة لجنة إعداد وصياغة الدستور وقد كان ذلك في العام 2002م حيث قام سموه بالإشراف على صياغة أهم الوثائق الوطنية وأعلاها مقاماً، وهي وثيقة الميثاق الوطني، وذلك إلى جانب إعداد الدستور، واللذين حققا معاً نقلة نوعية مشهودة في مسيرة مملكة البحرين وتاريخها المعاصر، كما وكان لسموه أيضاً دور كبير في تدشين ميثاق العمل الوطني البحريني الذي أقر في العام 2002م...
وفي العام 2009م أنعم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه على الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بلقب «سمو الشيخ» وذلك تقديراً لمكانته ودوره البارز في العمل على خدمة البحرين ورفعة مكانتها...
هذا وقد تولى سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله إبان مسيرته العملية العديد من المناصب المهمة الأخرى التي قدم سموه من خلالها خدمات رفيعة المستوى للبحرين وأهلها، منها؛ رئاسة لجنة تفعيل ميثاق العمل الوطني، ورئاسة اللجنة العامة لأسبوع الصحة وأيضاً عضوية مجلسها بين عامي 1957م- 1969م، وكذلك رئاسة جمعية الهلال الأحمر البحريني منذ العام 1969م، كما كان سموه رئيس اللجنة العليا للحج، فضلاً عن كونه الرئيس الفخري لجمعية البحرين الخيرية...
وعطفاً على حب سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه للتاريخ وشغفه به فقد ساهم سموه في كتابة تاريخ البحرين الحديث بعدة مؤلفات تاريخية موثقة ومعروفة، تعد اليوم من بين أهم المصادر والمراجع التي يُعتمد عليها في كتابة تاريخ البحرين قديماً وحديثاً، منها:
البحرين عبر التاريخ (موسوعة تاريخية تقع في أربعة أجزاء)...كتاب رؤى إسلامية: من وحي القرآن عام 1996م...مكانة البحرين في التاريخ الإسلامي، عام 2005م...تاريخ آل خليفة في البحرين...كتاب ملك وسيرة.
وقد تميز سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بحبه للمعرفة والعلم وشغفه بهما فضلاص عن ذكائه الفطري الذي منحه الله تعالى إياه، وهو الأمر الذي جعل منه شخصية جليلة تمتزج فيها السياسة مع مقومات الفكر والثقافة والحضارة والخبرة، وتعزز كل ذلك عراقة الأصل، ورفعة المنبت، وترفده حكمة وحنكة منقطعة النظير، فهو رجل تجسدت فيه كافة مميزات العصور البحرينية المتعاقبة الثقافية والفكرية والحضارية والإنسانية، لتجعل منه عميد مؤرخي الخليج ورائدهم بلا منازع، وهو الأمر الذي تأتى من معاصرته لمراحل عدة من تاريخ البحرين السياسي، ومعايشته في عين الوقت وعلى مدى سنوات عمره معظم أحداث القرن العشرين على اختلاف عهودها ومراحلها، فأضحى سموه رحمه الله شاهداً على العصر، وتاريخاً إنسانياً يمشي على الأرض يفيض عقله بالحكمة وينطق لسانه بالحق وينبض قلبه بالخير والمحبة.
أما حبه العميق للبحرين وترابها وسمائها وأرضها وبحرها وزرعها وعيونها وهوائها وأهلها، فقد جعل سموه على اتصال حميم بكل ما يتعلق بتاريخها؛ فأصبح متعايشاً فيه ومتفاعلًا معه ومساهماً في صناعته، وذلك فضلاً عن كون سموه مدوناً للتاريخ، وموثقاً له ومشاركاً في صياغة شتى أنواع صروحه، فمن إنشاء المكتبات، إلى تطوير العمل في دوائر الدولة، مروراً بتأسيس مركز الوثائق التاريخية، وصولاً إلى الإشراف على صياغة أهم الوثائق الوطنية وأعلاها مقاماً، فضلاً عن تأليف الكتب والموسوعات التاريخية، وبث أحداث التاريخ العريق ما بين سطورها، مجسداً سموه رحمه الله بذلك هبة زمنية متجددة ذات روح متفائلة، وعقلية خلاقة، وإنسانية متدفقة، وهمة عالية، يصاحبها استعداد سموه الدائم للبذل والعطاء في سبيل البحرين وشعبها وقيادتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها وحضارتها، وهو ما جعله يسعى جاهداً في بناء أركان الثقافة وتدوين التاريخ وجمع مصادره، لتكون إنجازاته أثراً باقياً وشاهداً خالداً ورابطاً قوياً ومجسداً أزلياً لعلاقة المحبة الكبيرة التي تمتد إلى شغاف الزمن والحضارة والتي تغمر قلبه وتفيض بها نفسه وتربط ما بين سموه وبين حبيبته البحرين وكل ما يختص بها...
رحل سمو الشيخ الوالد عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بعد عمر طويل ولكن سيبقى حُسن أثره الذي كان ثمرة عمله إبان عمره المديد والمبارك خالداً باقياً في ذاكرة البحرين والخليج ودول العالمين العربي والإسلامي.
وعلى مر الزمان... سأبقى أنا أحكي... عن ذكريات رابضة في الذهن لا يمكن نسيانها؛ عن مواقف إنسانية عديدة تأبى المغادرة... عن مواقف حياتية متوالية؛ عن ضحكة وفرحة ولقاء...عن عملي مع سموه... عن حضوري اليومي لمجلسه... عن أحاديثه الممتعة عن طفولته وحياته... عن ذكرياته وخبراته... عن عشقه الأبدي وحبيبته البحرين التي يحب كل ما فيها حتى النخاع... عن حبه للبحر وكل ما يتعلق به... عن شغفه بالزراعة وممارستها في مزرعته... عن مشاريعه المستقبلية... عن ضحكته وتفاؤله... عن سماحته وخفة ظله... عن عطفه وإنسانيته... عن أحاسيس ومشاعر تجسد الرابط الأبدي مع تلك الذكريات التي تملأ الوجدان برحيق عَطر ومذاقٍ كالشهد... عن دردشاتٍ وحكايا... عن تراث وأهازيج وعادات وتقاليد... عن إحساس بالأمان... عن أبوة وتفهم وسند واطمئنان... عن شعوري بالامتنان... عن مشاهد عشتها ماتزال تمر في خاطري أرى من خلالها ذكرياتي مع سموه في عرض مستمر يحكي تفاصيل أيام عزيزة ستبقى تنبض في الذاكرة.
ولا يسعني بعد أن حلّ القدر وفي ذكرى الرحيل الثالثة إلا أن أسأل المولى عز شأنه وجلَّت قدرته أن يتغمد سموه بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من جنته، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان... آااامين.
* باحث أكاديمي وكاتب
لكن رغم الموت تبقى هناك حياة تولد من الرحيل ذاته، وذلك حين يُدفن في جوفه ما هو ضدُّه... لتُشَكَّل أعظم المترادفات، وأشدها رسوخاً واستعصاءً على التغيير وذلك بعد عمر طويل... يتجلى على درب الحياة الممتدة حبلاً معقوداً ما بين المهد واللحد.
وكل نفس طيبة تفارق الحياة تترك بقاءً خالداً يعكس إنسانية الحياة التي عاشتها والنابعة من إيمانها بالخير درباً تدرجه في معارج الحياة، لتعزز هذا البقاء بجميل الأثر وتؤبد وجودها بين الناس بحسن أعمالها التي ستبقى ترمز إليها حين تدور العجلة، وتستمر السلسلة بعد أن يقع القدر وتلجُ هذه النفس بوابات الفَناء الكامن في كيان الحياة.
ويعد المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الوالد الشيخ عبد الله بن خالد بن علي آل خليفة طيب الله ثراه تجسيداً للنفس الزكية الطيبة التي تركت بالغ الأثر الباقي أبداً وذلك بعد رحيله في الـ21 من شهر رمضان من العام 1439هـ الموافق لـ 5 يونيو من العام 2018م، حين فقدت مملكة البحرين برحيله واحداً من أبرز قاماتها المخلصين الذين أفنوا حياتهم في خدمة بلادهم بكل ود ووفاء، وذلك من خلال الدور الكبير والرائد الذي اضطلع به سموه رحمه الله على مدى عقودٍ من عمره قدّم فيها جل وقته وجهده بإخلاص ومسؤولية ليُخلِّف رحمه الله أثراً خالداً يتجلى من خلال سيرة نموذجية حافلة بالخير والعطاء والعمل الجاد، ترك فيها بصمات تاريخية مشهودة، ومآثر طيبة محمودة في مجالات متعددة؛ كالقضاء والإدارة والعمل الإنساني والدعوة إلى العطاء وفعل الخيرات وهو ما جعل سموه يحظى بمكانة وطنية واجتماعية ودينية رفيعة أكسبته حب وتقدير الجميع واحترامهم.
كما كان سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله أيضاً من أبرز الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية التي عرفها تاريخ البحرين الحضاري والفكري والثقافي، فقد كانت شخصيته المحببة موسوعة تجمع بين جنباتها سلاسة الحديث وفصاحة اللسان وواسع المعرفة وتعدد المواهب وبُعد النظر، كما وعُرف رحمه الله أيضاً ببلاغة الخطاب وحسن الكلام، فضلاً عن كرم أخلاقه وتواضعه للّه، وذلك إلى جانب فطنته وقدرته الفذة على معالجة أصعب القضايا وإيجاد البدائل والحلول بروية وحنكة ودراية، وهو الأمر الذي جعل منه شخصية تقع محل احترام وتقدير جميع أهل البحرين وكافة من تعامل معه رحمه الله.
واستكمالاً لما سبق فقد سعى سموه طيب الله ثراه إلى زيادة ثقافته وعلمه ومعرفته الذاتية بزيادة اطلاعه وقراءته للكتب التي تختص بالتاريخ والأدب بشكل خاص، وذلك إلى جانب الكتب الثقافية والفكرية بشكل عام، وهو الأمر الذي أثرى شخصيته وجعل منه أحد أهم أعلام الفكر والمعرفة ومن المتبحرين في علوم الشعر واللغة والفقه والدين والتاريخ والتدوين، وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تولي سموه مختلف المناصب الحكومية، فضلًا عن تأسيسه لعدد من الوزارات والمؤسسات والمراكز الحكومية.
وقد ساهم سمو الشيخ عبدالله رحمه الله أيضاً بدور كبير في تفعيل العمل الثقافي في البحرين وتطويره وذلك من خلال إصداره لعدد من المجلات والدوريات الموثقة والمحكمة، ومنها مجلة «الهداية» التي صدر العدد الأول منها في فبراير من العام 1978م وهي مجلة شهرية إسلامية، وقد تولى سموه رئاسة تحريرها وذلك أثناء توليه لمنصب وزير العدل والشؤون الإسلامية.
وفي العام 1978م أسندت إلى سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله مهمة تأسيس ورئاسة مركز الوثائق التاريخية التابع لديوان سمو ولي العهد آنذاك، والذي كان لوالدي الدكتور علي أباحسين رحمه الله شرف المشاركة والعمل مع سموه في هذا المركز المتخصص والعريق الذي أصبح بفضل جهود سمو الشيخ عبدالله طيب الله ثراه ومثابرته قلب البحرين التاريخي وإرثها المدون وحضارتها العريقة التي تستند على ما يزيد عن الـ70 ألف وثيقة تاريخية تختص بشؤون البحرين وتاريخها وشعبها وعاداتها وتقاليدها، وقد بذل سموه حينها جهوداً ملحوظة لتأسيس مكتبة تابعة للمركز، حيث نشطت هذه المكتبة في جمع العديد من الوثائق والمخطوطات التاريخية والخرائط القديمة المتعلقة بالبحرين خاصة وبمنطقة الخليج العربي عامة، كما وتم تزويدها بعدد كبير من الكتب والموسوعات المختصة في مجال الوثائق والبحوث وكتب التاريخ، وكل ما يتعلق بشأنها...
وفي شهر يوليو من العام 1982م أصدر مركز الوثائق التاريخية العدد الأول من مجلة «الوثيقة» النصف سنوية المحكمة والتي تعد إحدى أهم وأبرز المجلات التاريخية المتخصصة التي تصدر في الوطن العربي، وقد تولى سمو الشيخ عبدالله رئاسة تحريرها بنفسه...
وبهذه المناسبة فقد كان لصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه والذي كان جلالته حينها ولياً للعهد كلمة بعنوان «هذه المجلة» جاء فيها: «هذه المجلة باب نرجو أن نطل منه على ماضينا وحاضرنا على السواء، وهي حلقة من جهد متواصل وشاق للجنة مركز الوثائق التاريخية ممثلة في رئيسها وأعضائها والعاملين فيها، وهي بعد ذلك خطوة على طريق ممتد تنطلق عليه دولتنا الحبيبة بكل قوة وعزم نحو غدها المأمول بإذن الله»...
كما وعبرت المقالة الافتتاحية للعدد الأول من المجلة والتي جاءت بقلم سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة عن بعض الأهداف المطلوب إنجازها من خلال إصدار هذه المجلة بقوله: «لقد أردنا لهذه المجلة أن تكون ندوة مفتوحة تقام كل ستة شهور، وهي ندوة نرجو أن يدور فيها النقاش علمياً ومتجرداً حول ما يطرح من موضوعات حتى تتاح لكل من أراد الفرصة للإدلاء برأيه من أجل وضع مزيد من النقاط فوق بعض الحروف، ونحن نعلن ابتداءً أن كل ما يصل إلينا من آراء سوف يستقبل بقلب مفتوح وعقل مفتوح»...
وإلى جانب ما سبق، فقد كان لسموه رحمه الله أيضاً دور واضح في الإصلاحات التي شملت البحرين في عهد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله، وذلك حين تسلم سموه رئاسة لجنة إعداد وصياغة الميثاق الوطني ثم رئاسة لجنة إعداد وصياغة الدستور وقد كان ذلك في العام 2002م حيث قام سموه بالإشراف على صياغة أهم الوثائق الوطنية وأعلاها مقاماً، وهي وثيقة الميثاق الوطني، وذلك إلى جانب إعداد الدستور، واللذين حققا معاً نقلة نوعية مشهودة في مسيرة مملكة البحرين وتاريخها المعاصر، كما وكان لسموه أيضاً دور كبير في تدشين ميثاق العمل الوطني البحريني الذي أقر في العام 2002م...
وفي العام 2009م أنعم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه على الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بلقب «سمو الشيخ» وذلك تقديراً لمكانته ودوره البارز في العمل على خدمة البحرين ورفعة مكانتها...
هذا وقد تولى سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله إبان مسيرته العملية العديد من المناصب المهمة الأخرى التي قدم سموه من خلالها خدمات رفيعة المستوى للبحرين وأهلها، منها؛ رئاسة لجنة تفعيل ميثاق العمل الوطني، ورئاسة اللجنة العامة لأسبوع الصحة وأيضاً عضوية مجلسها بين عامي 1957م- 1969م، وكذلك رئاسة جمعية الهلال الأحمر البحريني منذ العام 1969م، كما كان سموه رئيس اللجنة العليا للحج، فضلاً عن كونه الرئيس الفخري لجمعية البحرين الخيرية...
وعطفاً على حب سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه للتاريخ وشغفه به فقد ساهم سموه في كتابة تاريخ البحرين الحديث بعدة مؤلفات تاريخية موثقة ومعروفة، تعد اليوم من بين أهم المصادر والمراجع التي يُعتمد عليها في كتابة تاريخ البحرين قديماً وحديثاً، منها:
البحرين عبر التاريخ (موسوعة تاريخية تقع في أربعة أجزاء)...كتاب رؤى إسلامية: من وحي القرآن عام 1996م...مكانة البحرين في التاريخ الإسلامي، عام 2005م...تاريخ آل خليفة في البحرين...كتاب ملك وسيرة.
وقد تميز سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بحبه للمعرفة والعلم وشغفه بهما فضلاص عن ذكائه الفطري الذي منحه الله تعالى إياه، وهو الأمر الذي جعل منه شخصية جليلة تمتزج فيها السياسة مع مقومات الفكر والثقافة والحضارة والخبرة، وتعزز كل ذلك عراقة الأصل، ورفعة المنبت، وترفده حكمة وحنكة منقطعة النظير، فهو رجل تجسدت فيه كافة مميزات العصور البحرينية المتعاقبة الثقافية والفكرية والحضارية والإنسانية، لتجعل منه عميد مؤرخي الخليج ورائدهم بلا منازع، وهو الأمر الذي تأتى من معاصرته لمراحل عدة من تاريخ البحرين السياسي، ومعايشته في عين الوقت وعلى مدى سنوات عمره معظم أحداث القرن العشرين على اختلاف عهودها ومراحلها، فأضحى سموه رحمه الله شاهداً على العصر، وتاريخاً إنسانياً يمشي على الأرض يفيض عقله بالحكمة وينطق لسانه بالحق وينبض قلبه بالخير والمحبة.
أما حبه العميق للبحرين وترابها وسمائها وأرضها وبحرها وزرعها وعيونها وهوائها وأهلها، فقد جعل سموه على اتصال حميم بكل ما يتعلق بتاريخها؛ فأصبح متعايشاً فيه ومتفاعلًا معه ومساهماً في صناعته، وذلك فضلاً عن كون سموه مدوناً للتاريخ، وموثقاً له ومشاركاً في صياغة شتى أنواع صروحه، فمن إنشاء المكتبات، إلى تطوير العمل في دوائر الدولة، مروراً بتأسيس مركز الوثائق التاريخية، وصولاً إلى الإشراف على صياغة أهم الوثائق الوطنية وأعلاها مقاماً، فضلاً عن تأليف الكتب والموسوعات التاريخية، وبث أحداث التاريخ العريق ما بين سطورها، مجسداً سموه رحمه الله بذلك هبة زمنية متجددة ذات روح متفائلة، وعقلية خلاقة، وإنسانية متدفقة، وهمة عالية، يصاحبها استعداد سموه الدائم للبذل والعطاء في سبيل البحرين وشعبها وقيادتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها وحضارتها، وهو ما جعله يسعى جاهداً في بناء أركان الثقافة وتدوين التاريخ وجمع مصادره، لتكون إنجازاته أثراً باقياً وشاهداً خالداً ورابطاً قوياً ومجسداً أزلياً لعلاقة المحبة الكبيرة التي تمتد إلى شغاف الزمن والحضارة والتي تغمر قلبه وتفيض بها نفسه وتربط ما بين سموه وبين حبيبته البحرين وكل ما يختص بها...
رحل سمو الشيخ الوالد عبدالله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه بعد عمر طويل ولكن سيبقى حُسن أثره الذي كان ثمرة عمله إبان عمره المديد والمبارك خالداً باقياً في ذاكرة البحرين والخليج ودول العالمين العربي والإسلامي.
وعلى مر الزمان... سأبقى أنا أحكي... عن ذكريات رابضة في الذهن لا يمكن نسيانها؛ عن مواقف إنسانية عديدة تأبى المغادرة... عن مواقف حياتية متوالية؛ عن ضحكة وفرحة ولقاء...عن عملي مع سموه... عن حضوري اليومي لمجلسه... عن أحاديثه الممتعة عن طفولته وحياته... عن ذكرياته وخبراته... عن عشقه الأبدي وحبيبته البحرين التي يحب كل ما فيها حتى النخاع... عن حبه للبحر وكل ما يتعلق به... عن شغفه بالزراعة وممارستها في مزرعته... عن مشاريعه المستقبلية... عن ضحكته وتفاؤله... عن سماحته وخفة ظله... عن عطفه وإنسانيته... عن أحاسيس ومشاعر تجسد الرابط الأبدي مع تلك الذكريات التي تملأ الوجدان برحيق عَطر ومذاقٍ كالشهد... عن دردشاتٍ وحكايا... عن تراث وأهازيج وعادات وتقاليد... عن إحساس بالأمان... عن أبوة وتفهم وسند واطمئنان... عن شعوري بالامتنان... عن مشاهد عشتها ماتزال تمر في خاطري أرى من خلالها ذكرياتي مع سموه في عرض مستمر يحكي تفاصيل أيام عزيزة ستبقى تنبض في الذاكرة.
ولا يسعني بعد أن حلّ القدر وفي ذكرى الرحيل الثالثة إلا أن أسأل المولى عز شأنه وجلَّت قدرته أن يتغمد سموه بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من جنته، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان... آااامين.
* باحث أكاديمي وكاتب