تلفزيون الشرق
في وقت يؤدي قطع الغاز الروسي إلى قلب أمن الطاقة الأوروبي رأساً على عقب، تُكافح القارة العجوز للتعامل مع ما يقول الخبراء إنه أحد أسوأ أزمات الطاقة على الإطلاق، ويمكن أن يزداد سوءاً.

وعلى مدى أشهر، كانت مخاوف احتمال فقدان إمدادات الغاز الطبيعي الروسية تُطارد القادة الأوروبيين، إذ تُمثل هذه الإمدادات نحو 40% من الواردات الأوروبية، وكانت شريان حياة حيوياً للطاقة في القارة، وفقا لمجلة "فورين بوليسي".

وأشارت المجلة إلى أن هذا الكابوس أصبح الآن واقعاً مؤلماً مع خفض موسكو تدفقاتها رداً على دعم أوروبا لأوكرانيا، ما أدى إلى زيادة أسعار الطاقة بشكل كبير، وإجبار العديد من الدول على اللجوء إلى خطط الطوارئ.

وقال أليكس مونتون، الخبير في أسواق الغاز العالمية بمجموعة "رابيدان للطاقة" وهي شركة استشارية، إن "هذه هي أزمة الطاقة الأكثر حدة على الإطلاق في أوروبا التي باتت تنظر إلى الاحتمال الحقيقي بعدم وجود ما يكفي من الغاز عندما تكون هناك حاجة ماسة إليه في أبرد فصول العام".

تفاقم الأزمة

ويشعر العديد من المسؤولين وخبراء الطاقة بالقلق من أن تتفاقم الأزمة بعد تعطيل خط "نورد ستريم 1"، أكبر خط أنابيب غاز يمتد من روسيا إلى أوروبا، للصيانة المجدولة هذا الأسبوع.

ورغم أنه من المفترض أن يكون خط الأنابيب قيد الإصلاح لمدة 10 أيام فقط، فإن تاريخ الكرملين في استخدام ورقة الطاقة كسلاح للضغط قد أثار مخاوف من أن موسكو لن تُعيد تشغيله، تاركاً الدول الأوروبية في حالة تأزم.

من جانبه يرى وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، أن "كل شيء ممكن. كل شيء يمكن أن يحدث. يمكن أن يتدفق الغاز مرة أخرى، ربما أكثر من ذي قبل. ويمكن ألا يأتي شيء".

وقد يتسبب ذلك في مشاكل خلال الشتاء المقبل، عندما يرتفع الطلب على الطاقة، مع عدم وجود ما يكفي من الغاز الطبيعي الضروري للتدفئة.

وفي حال استمرار الاضطرابات الروسية التي قد يطول أمدها، يُحذر الخبراء من شتاء صعب ما بين الترشيد المحتمل في استهلاك الغاز أو الإغلاق الصناعي أو حتى اضطراب اقتصادي هائل.

كما يقول المسؤولون البريطانيون الذين حذروا قبل بضعة أشهر فقط من ارتفاع فواتير الكهرباء للمستهلكين، إن "هناك إمكانية لحدوث أسوأ من ذلك".

وأشارت هيليما كروفت، المديرة الإدارية بمصرف "RBC Capital Markets" الاستثماري ومقره كندا، إلى أن أوروبا قد تواجه "شتاء السخط"، مضيفة أن "السيناريو الأسوأ هو أن يضطر الناس إلى الاختيار بين تناول الطعام والتدفئة في فصل الشتاء".

إضرابات في أوروبا

في ظل هذه الضغوط التي تفرضها إمدادات الطاقة، اندلعت إضرابات في جميع أنحاء القارة الأوروبية، حيث تُكافح الأسر ارتفاع تكاليف المعيشة وموجات التضخم، وكان لبعض هذا السخط آثاراً غير مباشرة في سوق الطاقة.

وفي النرويج، أكبر مورد للغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي بعد روسيا، أجبرت الإضرابات الجماعية في صناعة النفط والغاز الأسبوع الماضي الشركات على إيقاف الإنتاج، ما زاد انتشار موجات الصدمة إلى جميع أنحاء القارة.

وفي فرنسا، تُعيق الإضرابات حركة القطارات، وفي إنجلترا تُؤخر المحاكمات الجنائية، بينما تُعكر صفو السفر الجوي في أنحاء أوروبا، في وقت يستغل القادة العماليون بجميع أنحاء القارة تكاليف المعيشة المتصاعدة للمطالبة بزيادات كبيرة في الأجور في بعض الأحيان، وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال".

ونقلت صحيفة "ذا جارديان" عن نائب رئيسة المفوضية الأوروبية فرانس تيمرمانز قوله إن "الدول الأوروبية معرضة لخطر الانزلاق إلى صراع قوي للغاية بسبب عدم توفر الطاقة. (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يستخدم كل الوسائل التي لديه لخلق الفتنة في مجتمعاتنا، لذلك علينا أن نستعد لفترة صعبة للغاية".

ومع ذلك، ربما يكون أثر الأزمة محسوساً بشكل أكثر وضوحاً في ألمانيا التي اضطرت للجوء إلى عدد من التدابير الموفرة للطاقة، بما في ذلك ترشيد استخدام المياه الساخنة، وإغلاق حمامات السباحة، ولمواجهة الأزمة، دخلت بالفعل المرحلة الثانية من خطة الغاز الطارئة المكونة من 3 مراحل.

وفي الأسبوع الماضي، تحركت برلين أيضاً لإنقاذ عمالقة الطاقة التابعين لها الذين تعرضوا لانتقادات مالية بسبب التخفيضات الروسية.

لكن الأمر لا يتعلق بألمانيا وحدها. وقالت أولجا خاكوفا الخبيرة في أمن الطاقة الأوروبية بـ"المجلس الأطلسي" وهو مؤسسة بحثية "يحدث هذا في جميع أنحاء أوروبا"، مشيرةً إلى أن فرنسا أعلنت أيضاً عن خطط لتأميم شركة الطاقة "إي دي إف" في الوقت الذي تُعاني فيه من خسائر اقتصادية متزايدة.

وأضافت: "الجزء الصعب هو مدى ما يُمكن لهذه الحكومات أن تُقدم دعماً لمستهلكي الطاقة، ولهذه الشركات؟ وما هي نقطة الانهيار؟".

كما أدى هذا الوضع إلى تعقيد الأهداف المناخية للعديد من البلدان. وفي أواخر يونيو، أعلنت ألمانيا وإيطاليا والنمسا وهولندا أنها ستُعيد تشغيل محطات توليد الطاقة القديمة التي تعمل بالفحم في وقت تتصارع مع تقلص الإمدادات.

حرب طاقة

الخبير في أسواق الغاز العالمية بمجموعة رابيدان للطاقة، أليكس مونتون قال إن النتائج المحتملة التي تتصارع معها الدول الأوروبية تكشف كيف تحدث هذه الأزمة على نطاق لم يسبق له مثيل، إلا في أوقات الحرب.

وأضاف مونتون: "في أسوأ السيناريوهات، نحن نتحدث عن ترشيد إمدادات الغاز، وهذا أمر لم تضطر أوروبا إلى التعامل معه في أي وقت آخر غير وقت الحرب. هذا هو المكان الذي وصلت إليه الأمور الآن. هذه حرب طاقة".

وتُشير "فورين بوليسي" إلى أن هذه الأوضاع تُسلط الضوء على المعركة الطويلة والمؤلمة التي ستستمر أوروبا في مواجهتها لـ"فطام نفسها عن الغاز الروسي".

ورغم حرص القارة على التخلي عن إمدادات موسكو ، يقول الخبراء إن أوروبا ستظل على الأرجح محاصرة في هذه الأزمة المتصاعدة حتى تتمكن من تطوير البنية التحتية لمزيد من الاستقلال في مجال الطاقة، وقد يستغرق ذلك سنوات، إذ يحتاج بناء خطوط الأنابيب الجديدة وقتاً طويلاً، ولا يوجد فائض من الموردين المؤهلين.

وقال خبير الطاقة بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة جيمس هندرسون إنه "من الصعب للغاية على أوروبا أن تُخفف من اعتمادها على الغاز الروسي قبل ما يتراوح بين 3 إلى 5 سنوات، فمشاريع الغاز لا يتم بناؤها بهذه السرعة".

وحتى ذلك الحين، سيستمر القادة الأوروبيون في التدافع لتأمين إمدادات كافية، ولا يسعهم إلا أن يأملوا في طقس معتدل.