عبدالله الدوسري

لم نكن أبداً جيدين في توقع هذه الدورات «السعرية»، لا عند حدوثها ولا مدتها. إننا لا نقضي الكثير من الوقت حتى في المحاولة «. هذا ما قاله ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي السابق في عام 2016 عندما كان يرأس شركة إكسون موبيل.

ويضيف تيلرسون، «كيف سيبدو المستقبل، نحن لا نأخذ نظرة محددة حوله، إلا أننا ندرك أنه مهما كان اليوم، فإنه سيكون مختلفًا في وقت ما في المستقبل، وبعد ذلك سيكون مختلفًا مرة أخرى. فيما يقرب من 41 عاماً (من عملي مع إكسون موبيل)... لم أتعلم أي شيء عن قدرتي في توقع ذلك. لكنني تعلمت الكثير عن كيفية التعامل معها».

تعتبر مشاريع إنتاج النفط من أضخم المشاريع الصناعية، حيث تستهلك هذه المشاريع موارد مالية وبشرية كبيرة أثناء إنشائها، وتستغرق هذه المشاريع سنوات من التخطيط والتنفيذ ليبدأ الإنتاج لاحقاً، وهذا التأخير بين وقت اتخاذ القرار لتنفيذ المشروع إلى حين بدء الإنتاج مهم جداً لفهم دورات إنتاج النفط الاقتصادية وتقلباته السعرية.

ففي حالة ارتفاع أسعار النفط، تبدو كثير من مشاريع إنتاج النفط مجدية اقتصادياً، ونظراً لصعوبة تحديد مستوى سعر النفط في المستقبل، يتم تقييم هذه المشاريع بناء على الأسعار المرتفعة في ذلك الوقت مع افتراض كل مشروع أنه سيقوم بسد الطلب المستقبلي المتوقع. وعلى هذا المنوال، تقوم عدة دول وشركات بالبدء في مشاريع كبيرة لإنتاج النفط بناءً على نفس المعطيات، وغالباً ما يفوق مجموع إنتاج هذه المشاريع مستوى الطلب المستقبلي المتوقع بطبيعة الحال.

وحين تبدأ هذه المشاريع في الإنتاج تجد نفسها أمام معضلة التنافس على نفس الحصص السوقية، فبعد أن كانت التوقعات المستقبلية السابقة بحصول نقص إمدادات في أسواق النفط، يجد المنتجون الجدد أنفسهم في سوق يعاني من فائض في الإنتاج بسبب الطاقة الإنتاجية الجديدة لهذه المشاريع. فيبدأ المنتجون بتخفيض الأسعار لتقليل خسائر الاستثمار في هذه المشاريع وللمنافسة على الحصص السوقية المحدودة، مما يخفض أسعار النفط في الأسواق أكثر فأكثر إلى حين استيعاب الأسواق لفائض الإنتاج.

ونتيجة لهذا الظرف المستجد، يتخوف المستثمرون من الاستثمار في مشاريع جديدة الإنتاج نظراً للحال التي آلت إليها أسواق النفط، فينخفض مستوى الإنتاج الجديد الداخل على السوق بينما يستمر الطلب في النمو كما هو متوقع، إلى أن يصل السوق إلى حاله ازدياد مستوى الطلب عن الإمدادات النفطية الجديدة، مما يرفع الأسعار بشكل كبير. وتتسم هذه الدورة بارتفاعات كبيرة في الأسعار وعجز المنتجين عن تلبية الطلب المتزايد عن النفط بسبب أحجام المستثمرين عن الاستثمار في السنوات السابقة.

وتتكرر هذه الحالة من الرواج والكساد في أسواق النفط بسبب عدم قدرة منتجي النفط على التفكير والتصرف الجمعي مما يحقق مصالحهم مجتمعه، ففي حالة ارتفاع الأسعار يستثمر الكل في الإنتاج ليتسببوا في انهيار الأسعار، وفي حالة الكساد يحجم الكل عن الاستثمار مما يتسبب في أزمة ارتفاع للأسعار في المستقبل.

على ضوء على التوصيف، كيف يمكن فهم دور أوبك وشركات النفط الكبرى في هذه الدورات السعرية للنفط؟ قد تمارس أوبك وشركات النفط الكبرى بعض التأثير على أسعار النفط في المدى القصير، لكن أثبتت التجارب أن دورها محدود على المدى المتوسط في توجيه الأسعار وأن عوامل السوق أقوى منها بكثير.

دائماً ما تكون تحركات أوبك وشركات النفط الكبرى حذرة في المراحل الأولى من دورة ارتفاع أسعار النفط، وذلك لقرب مرحلة الركود السابقة، ففي المراحل المبكرة من طفرة الألفية لأسعار النفط التي بدأت منذ أوائل 2000 وحتى 2008، كانت الشركات النفطية متحفظة بشكل كبير حول الاستثمار في المشاريع النفطية لاعتقادها أن ارتفاع الأسعار في هذه المرحلة مؤقت وغير مستدام، مما أدى إلى اختلال كميات العرض والطلب ومن ثم الارتفاع الكبير في الأسعار وانهيارها في 2008 كما هو معلوم. بل إن هذه السياسة الاستثمارية المتحفظة تسبب في بروز النفط الصخري كمصدر بديل للنفط التقليدي، فالاستجابة البطيئة للاستثمار نتيجة للتغيرات في أسعار النفط تعد واحدة من أكبر أسباب عدم الاستقرار في أسواق النفط، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان ينبغي للشركات النفطية الكبرى أن تتصرف بشكل مختلف في تلك الفترة أم لا، فتقييم تلك القرارات بالمعطيات الحالية غير منصف على أية حال. فما هي السياسة الأمثل لمنتجي النفط سواءً من أوبك أو الشركات الكبرى؟ يكمن الجواب في الاستعداد للتعامل مع هذه الدورات السعرية عن طريق الاستثمار المستمر في قدرات الإنتاج مع ضمان الانضباط في الإنفاق سواء على المستوى الحكومي أو الشركات الخاصة، وعدم افتراض استقرار الأسعار عند أي مستوى بأي حال من الأحوال، بل يجب تقبل هذه التقلبات والتعامل معها بواقعية كونها أبرز سمات القطاع النفطي.

*الباحث والمحلل في مجال النفط والطاقة بمركز «دراسات»