نبيل خالد كانو

تصادف هذه الأيام ذكرى مئوية تأسيس القطاع المصرفي في مملكة البحرين، والتي أصبحت مركزًا مهمًا للأسواق المالية في المنطقة ووجهة مفضلة لكبرى المؤسسات المالية حول العالم، وهي موطن لأكثر من 380 مؤسسة مالية مرخصة، بفضل تهيئة الحكومة للبنية التشريعية والفنية الداعمة لنجاح الإستثمار.

كما تطورت الصناعة المصرفية في المملكة بشكل سريع وأصبحت من أقوى القطاعات الداعمة للاقتصاد الوطني بعد القطاع النفطي، حيث إن القطاع المصرفي يسهم بما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأود هنا أن نستذكر صفحات من تاريخ الوطن، تحديداً الفترة الزمنية التي سبقت إنشاء البنوك في البحرين، ويعتبر المغفور له بإذن الله تعالى الحاج يوسف بن أحمد كانو أول مصرفي في البحرين، حيث أنشأ أول بنك في البحرين كان عبارة عن خزانة من الخرسانة المسلحة بباب حديدي مستورد لحفظ أموال تجار اللؤلؤ حينها.

واشترى الحاج يوسف بن أحمد كانو "خزنة" فولاذية ضخمة من إنجلترا وسخرها لأهل البلد كمكان آمن لتخزين ممتلكاتهم، فتعامل معه الجميع ومن ضمنهم التجار الذين وضعوا عنده اللآلئ والأموال. وكان يقوم بتسجيل كافة الموجودات في دفاتر حسابات كي لا يضيع حق أحد.

وفي هذا السياق، أورد مقتطفات من كتاب والدي خالد محمد كانو "بيت كانو: قرن من الأعمال التجارية لشركة عائلية عربية":

مع بداية القرن العشرين كانت البحرين مركزاً لصناعة اللؤلؤ في الخليج العربي، حيث كان التجار يأتون إليها من جميع أنحاء المنطقة من أجل شراء وبيع اللؤلؤ، ليس فقط للأسواق المحلية وإنما للمتاجرة أيضاً في الأسواق العالمية مثل بومباي وباريس وغالباً ما كان التجار الأجانب يفتحون حساباً مع تاجر لؤلؤ بحريني ليشتروا اللؤلؤ عن طريقه.

وإذا كان التاجر الأجنبي يعرف صديقاً أو أحد الأقرباء في البحرين، كان يطلب من ذلك الصديق أو القريب العمل بصفة وكيل محلي له ينوب عنه في شراء اللؤلؤ، ولكن مثل تلك الترتيبات كانت تنطوي على بعض المجازفة، فلم تكن هناك مصارف أو أماكن آمنة يحفظ فيها الناس مقتنياتهم الثمينة.

فقد أدت تلك الظروف إلى انبثاق فكرة إنشاء خزينة "تجوري"، محصنة لحفظ الأمانات في ذهن الحاج يوسف بن أحمد كانو، ليستخدمها سكان جزيرة البحرين وغيرهم دون مقابل لحفظ ودائعهم.

الحاج يوسف - المصرفي في البحرين وبومباي

اشترى الحاج يوسف بن أحمد كانو خزانة فولاذية من نوع غودريدج من إنجلترا مجهزة بباب فولاذي ضخم يمكن للمرء المرور عبره إلى داخلها، وقام بتركبيها بجوار مكتبه، ثم سمح للتجار بإيداع النقود إلى داخلها، وقام بتركيبها بجوار مكتبه، وسمح للتجار بإيداع النقود والذهب واللؤلؤ في تلك الغرفة المحصنة التي ذاعت شهرتها، حيث جهزت بألواح فولاذية سميكة وباب ثقيل وأقفال ضخمة وخصص حارساً ليجلس خارجها.

وبهذه الطريقة البسيطة بدأ الحاج يوسف بن أحمد كانو خدمة خزائن الإيداع "وباب هذه الخزانة محفوظ اليوم لدى مخازن متحف البحرين الوطني"، وهكذا كان العديد من الناس يأتون إلى الحاج يوسف بن أحمد كانو حاملين صناديق النقود الفضية المغلقة بالأختام التي كانت تستورد من الهند.

ومع ازدياد الإقبال على هذه الخدمة، وضع الحاج يوسف بن أحمد كانو في غرفته المحصنة صفوفاً من الأرفف لكي يتمكن من تخزين المزيد من تلك الصناديق الخشبية وكان كل صندوق منها مزود بمقبضين من الحبال ويحكم إغلاقه بقفل ويحتوي على 4,000 روبية معدنية موزعة بالتساوي على كيسين.

وراء الإقبال الشديد على خدمات الحاج يوسف بن أحمد كانو المصرفية تكمن أسباب عدة فالكثير من التجار كانوا يفضلون الحفاظ على الوسائل التجارية التقليدية التي اعتبروا أنها أدت دورها لهم بنجاح، وبما أنهم كانوا جميعاً يتحدثون العربية ويتعاملون مع الحاج يوسف بن أحمد كانو مباشرة وجهاً لوجه، فلم يكن الاتصال بينهم مشكلة.

وبالتالي فقد كان التجار والمسافرون يقومون باستخدام مرافق خزائن الإيداع التي وفرها لهم الحاج يوسف بن أحمد كانو، وكثيراً ماكانوا يأتمنونه على أنفس منقولاتهم، ولم يكن الحاج يوسف بن أحمد كانو يتقاضى أتعاباً لقاء هذه الخدمة، بل كان يقدمها خدمة لعملائة ومعارفه.

صار الحاج يوسف بن أحمد كانو معروفاً كمصرفي في البحرين وفي بومباي حيث افتتح مكتباً لأعماله، ويبدو أن النظام كان يتبع المنوال التالي: يقوم الشيوخ والتجار والأفراد بإرسال "شيكاتهم" (كمبيالات شخصية) إلى الحاج يوسف بن أحمد كانو مصدرين له التعليمات بأن يدفع لشخص ما مبلغا ً من النقود متعهدين بتسوية الحساب فيما بعد، وكان الحاج يوسف بن أحمد كانو يفعل الشيء نفسه بالاتجاه العكسي.

وبهذه الطريقة صار بإمكان المستوردين البحرينيين إيداع المبالغ لدى الحاج يوسف بن أحمد كانو في البحرين والسفر إلى الهند حيث يشترون مايريدون ثم يسددون المبالغ المستحقة إلى دائنيهم بالسحب على حساباتهم في مكتب الحاج يوسف بن أحمد كانو في بومباي.

وبذلك يتم تقليل كميات النقود المشحونة بين البلدين إلى أدنى حد، وحين تشحن كان ذلك يتم بسهولة وبساطة حيث أنها تكون موضوعة بأكياسها داخل الصناديق، وقد اتبع هذا النظام في أنحاء شبه القارة الهندية وموانئ الخليج العربي.

اعتاد تجار اللؤلؤ البحرينيون السفر إلى الهند خلال أشهر الشتاء لبيع للآلئهم، وبعد بيعها كان بإمكانهم فتح حساب لدى الحاج يوسف بن أحمد كانو بإيداع عوائد مبيعاتهم في مكتبه في بومباي، وفي الربيع يذهبون إلى مكتب الحاج يوسف بن أحمد كانو في البحرين ويسحبون من حساباتهم الموجودة في بومباي، وبهذه الطريقة يمكنهم دفع المبالغ مقدماً إلى نواخذة السفن الشراعية الذين يدفعون بدورهم المصاريف مقدماً إلى الغواصين وعمال الشد وباقي أفراد طاقم صيد اللؤلؤ، وكان الحاج يوسف بن أحمد كانو يدخل في المشروعات مثل التمويل الكامل لإحدى سفن صيد اللؤلؤ في هذا النوع من الصفقات المحفوفة بالمخاطر.

كان الحاج يوسف بن أحمد كانو يوافق على أن يضمن مساهمة نوخذة السفينة في رأس مال الرحلة على أن يشاركه في الربح أو الخسارة، وبنفس هذه الطريقة يمكن للحاج يوسف بن أحمد كانو تمويل نوخذة السفن الشراعية للقيام برحلة تجارية، ويعرف هذا المبدأ الإسلامي المصرفي باسم "المضاربة".

ومع أن الحاج يوسف بن أحمد كانو احتفظ بسجلات محاسبية دقيقة، فإن القدرة على القراءة والكتابة كانت ميزة حظيت بها قلة قليلة من سكان البحرين في تلك الأيام ومن أجل التغلب على هذه المشكلة كان يتم الاعتماد أحياناً على نظام محاسبي لايقوم على أساس تسجيل البيانات في الدفاتر.

فعندما كان بعض نواخذة السفن الشراعية والغواصين والتجار والمسافرين يأتمنون الحاج يوسف بن أحمد كانو على مبلغ من المال أو كمية من اللآلئ، كانوا كثيراً مايميزون ممتلكاتهم بربط عقد في المنديل الأحمر الذي يلفونها به، وكان محاسب الحاج يوسف بن أحمد كانو يتعرف على ممتلكات كل شخص بربط عدة عقد في المنديل الأحمر الذي يلفونها فيه، وكان محاسب الحاج يوسف بن احمد كانو يتعرف على ممتلكات كل شخص بعدد العقد العائدة له حسبما تم تدوينه في دفاتر سجلاتنا.

وخلال غيابهم الطويل عن البحرين كان بعض البحرينيين يقومون أيضا بعمل الترتيبات مع الحاج يوسف بن أحمد كانو ليدفع مصروف منتظم لعائلاتهم أو يتركون "وصية" بحيث لو توفى أحدهم في رحلته، يقوم الحاج يوسف بن أحمد كانو بتسليم نقوده إلى ورثته.

بمرور السنوات صار الحاج يوسف بن أحمد كانو "مرجعا" ماليا في البحرين، وكان يقدم النصح إلى عملائة في جميع أنحاء منطقة الخليج العربي معتمداً في ذلك بيانات أسعار العملات والسلع الأساسية التي كان يتلقاها من الوكلاء في لندن، كما كان يراقب بيقظة النشاطات والتطورات الأخرى في المجال المصرفي.