تكتسب الدورة الرابعة والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تستضيفها دولة قطر الشقيقة، غدا الثلاثاء، أهمية متزايدة، إذ تتعلق بها آمال وطموحات كبيرة في أن تستكمل الخطوات الرائدة التي قطعها مجلس التعاون في مسيرة العمل الخليجي المشترك خلال العقود الأربعة الماضية، ولاسيما في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، التي تتطلب مزيدًا من التنسيق والتضامن والتكامل الذي يعزز من قدرة دول المجلس على الحفاظ على المكتسبات والبناء عليها، بما يلبي تطلعات دول وشعوب المجلس.

وتحرص مملكة البحرين في ظل الرؤية الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، على دعم ومساندة كل الجهود الرامية إلى تحقيق التكامل الخليجي، وهو ما يعبر عنه جلالته في كل المناسبات واللقاءات، ومنها على سبيل المثال، ما جاء في كلمة جلالته السامية في افتتاح الدورة السابعة والثلاثين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون التي عقدت بالمنامة في 2016، بأن "مجلس التعاون في ظل ما وصل إليه من تكامل مشهود، لم يعد أداة لتعزيز مكتسبات شعوبنا فقط، بل أضحى صرحًا إقليميًا يبادر إلى تثبيت الأمن والسلم الإقليمي والدولي، عبر دوره الفاعل في وضع الحلول والمبادرات السياسية لأزمات دول المنطقة، ومنع التدخلات الخارجية في شئونها الداخلية".

كما أن الحكومة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، تولي اهتمامًا كبيرًا بالدائرة الخليجية، وتعمل على الدفع بمسارات التكامل الخليجي إلى الأمام في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، بما يحقق الأهداف المنشودة وفق رؤى أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس حفظهم الله ورعاهم.

وشهدت مسيرة العمل الخليجي المشترك تاريخًا طويلاً وممتدًا من النماء والازدهار، يعكس الرغبة الأكيدة لدى دول المجلس على الاستفادة مما تمتلكه من مقومات فريدة في بناء نموذج قوي للتكامل القادر على التعامل مع كل التحديات، ارتكازًا على ما يربط بين دول المجلس من مقومات تاريخية وبشرية واجتماعية من روابط النسب والقربى والمصاهرة، وهي المقومات التي جعلت منه تكتلاً فريدًا في العالم، حيث لا يقوم فقط على الرغبة في تحقيق المصالح المتبادلة، وإنما أيضا يعبر عن امتدادات تاريخية من الترابط الاجتماعي.

وخلال العقود الماضية، نجح مجلس التعاون في أن يثبت أقدامه بين التكتلات الإقليمية والعالمية المؤثرة في صناعة القرار الدولي، من خلال تبينه وتنفيذه أهدافًا سياسية واستراتيجية تؤمن بالقيم الدولية والإنسانية العالمية، في إطار الأسس والمرتكزات القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة، والعمل الجاد والتنسيق من أجل الحفاظ على أمن دول المجلس واستقرارها والوقوف صفًا واحدًا في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس، وكل ذلك من خلال استراتيجيات تقوم على التوازن والعقلانية في مجال السياسة الخارجية، وهو الأمر الذي أسهم في نجاح المجلس على التعامل بحكمة مع العديد من الأزمات التي مرت بها المنطقة، وقدم نموذجًا في معنى العمل الدبلوماسي الملتزم، والحريص على دعم القضايا العربية والإسلامية العادلة وفق أسس الشرعية الدولية.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تحققت العديد من الإنجازات من خلال إقرار عدد من القوانين والأنظمة، وإنشاء الهيئات المشتركة، ومنها السوق الخليجي المشترك، والاتحاد الجمركي، والاتحاد النقدي، والربط الكهربائي، إضافة إلى مجالات التعاون المالي والاقتصادي والتجاري والجمركي والاستثماري والسياحي ومجالات النقل والمواصلات والطيران، والطاقة، والبيئة والتكنولوجيا وغيرها.

وفي هذا السياق، شكلت "الاتفاقية الاقتصادية بين دول مجلس التعاون" التي تم التوقيع عليها من قبل أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس ديسمبر 2001 خلال انعقاد الدورة الثانية والعشرين للمجلس الأعلى في مدينة مسقط بسلطنة عمان، نقلة نوعية في مسيرة العمل الاقتصادي المشترك، إذا أنها عملت على تعزيز الروابط الاقتصادية بين دول المجلس، وتقريب سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية وتشريعاتها التجارية والصناعية والأنظمة الجمركية المطبقة فيها بما يتناسب مع متطلبات الفترة الراهنة وتحديات المستقبل.

وتحقيقًا لتلك الأهداف، فقد تضمنت الاتفاقية نصوصًا مطورة في الأحكام المتعلقة بالاتحاد الجمركي، والسوق الخليجية، والاتحاد الجمركي، والاتحاد الاقتصادي والنقدي، والتكامل الإنمائي بين دول المجلس، وتنمية الموارد البشرية، والتعاون في مجالات البحث العلمي والتقني، والنقل والاتصالات والبنية الأساسية.

وبفضل هذه السياسات، استطاعت دول المجلس، بحسب ما أكده الأمين العام لمجلس التعاون السيد جاسم محمد البديوي تسجيل نمواً ملحوظاً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.3% في عام 2022، رغم الاضطرابات الاقتصادية، إلا أن صناع السياسات في دول مجلس التعاون تمكنوا من التخفيف من الآثار الاقتصادية لهذه الاضطرابات، منوهًا بالتقدم المحرز "في الإصلاحات الهيكلية" الذي قامت به دول المجلس في مواجهة التحديات الاقتصادية، التي أتت نتائجها بإيجابية على الاقتصاد وتحسين مناخ الأعمال، والقدرة التنافسية، وتحقيق قفزة في مشاركة المرأة في القوى العاملة، كما شهد القطاع غير النفطي قفزة بنسبة 4.8% في عام 2022.

وفي سياق آخر، حظي التعاون العسكري المشترك باهتمام دول مجلس التعاون منذ بداية تأسيس المجلس، انطلاقًا من القناعة الراسخة بوحدة الهدف والمصير، وبناء على ذلك تم إقرار العديد من الاتفاقيات والقرارات، من بينها اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون التي تم التوقيع عليها في الدورة الحادية والعشرين للمجلس الاعلى (المنامة ، ديسمبر 2000م)، والاستراتيجية الدفاعية لدول مجلس التعاون التي تمت الموافقة عليها في الدورة الثلاثين للمجلس الاعلى (الكويت ، ديسمبر 2009م)، وإنشاء القيادة العسكرية الموحدة لدول المجلس التي أقرها المجلس الأعلى في دورته الرابعة والثلاثين (الكويت ، ديسمبر 2013م)، إلى جانب مركز العمليات البحري الموحد، والحرص على تنفيذ التمارين المشتركة الدورية لجعل القوات المسلحة بدول المجلس أكثر تجانسًا وتوافقًا، وغيرها الكثير من الخطوات والقرارات والمبادرات.

كما تنوعت مجالات التعاون عبر مسيرة العمل الخليجي المشترك لتشمل أيضًا التعليم والتعاون العلمي والتقني والعمل والخدمات الاجتماعية، والبيئة والصحة والشباب والإسكان والعمل البلدي والشباب والرياضة والثقافة والفنون والآداب والأمن الغذائي والمائي والصناعة والتعدين والزراعة ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وغيرها، بما يلبي أهداف المجلس في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين، وتوثيق الروابط بين شعوبها، في إطار من الشراكة والتكامل الذي يعزز من قدرة المجلس على الاستمرار كتكتل إقليمي فاعل في مجريات السياسة الدولية.

وينتظر أن تستكمل القمة الخليجية في الدوحة، المسيرة المباركة لمجلس التعاون، وأن تشهد مزيدًا من التنسيق المشترك تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية، كما سيحظى تعزيز التعاون الاقتصادي بنصيب وافر من مناقشات القمة ومخرجاتها، حيث قال الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، في حوار صحفي مؤخرًا، أن مشروعات السكك الحديدية والسوق الخليجية وملف التأشيرة السياحية الموحدة ستكون ضمن جدول أعمال القمة.

إن تعزيز العمل الخليجي المشترك بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس ويحفظ أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها كان وسيظل أبرز أولويات دول مجلس التعاون، وهناك اتفاق تام بين الجميع على ضرورة مواصلة الجهود والتنسيق والتعاون من خلال رؤية استشرافية تهدف إلى مواجهة التحديات بآليات تخدم جهود التنمية المستدامة في إطار من التكامل.