سكاي نيوز عربية
ثمة ارتباط مُحكم بين الانخراط التركي في أي ملف عسكري أو أمني خارجي، وبين الزيارات التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة القطرية الدوحة. إذ طوال السنوات الماضية، وبشكل منتظم، جاءت زيارة أردوغان إلى الدوحة عقب التدخلات التركية في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط، ومؤخراً في الصراع الأذربيجاني الأرمني.
لا يتعلق الأمر بمستوى متين من التحالف السياسي بين الطرفين، فتركيا تدخلت في كافة هذه الملفات، دون أية استشارة أو مشاركة عسكرية أو أمنية أو سياسية قطرية، خلا بعض المساهمة الرمزية في ذلك. بل ينزاح الدور القطري لأن يكون مالياً فحسب، أو بمقولة أدق تمويلياً. فاستراتيجية أردوغان التدخلية في الملفات الخارجية كانت تفتقر دوماً لحيوية مالية، وذلك لسببين مركبين: فتركيا ليست دولة غنية بالموارد، وأغلب موارد الأجهزة الأمنية تأتي من ميزانية الجيش ووزارة الدفاع، ولا تستطيع أن تتصرف بها خارج البنود التي يتم إقرارها.
الأمر الآخر يتعلق ببنية النظام السياسي التركي، فكل اشكال الشمولية التي يحاول أردوغان فرضها منذ سنوات، لم تخوله حاكماً مطلقاً على البلاد، إذ ثمة معارضة وإعلام مستقل نوعاً ما، لم يتمكن حتى الآن من طمسها، وبالتالي لا يمكنه تنفيذ حملات تمويل للمليشيات المسلحة، لأن ذلك سيكون محل ملاحظة هذه القوى، وستفضحه بسبب ذلك.
كانت قطر الحل المناسب لذلك. إذ تقول معظم التقارير الرصينة بشأن مصادر تمويل "المليشيات التركية"، بأن قطر وحدها تستطيع تغطية تلك التكلفة الضخمة. فحسب أبسط الحسابات يصل أعداد تلك الميليشيات في سوريا وليبيا وأذربيجان إلى نحو 50 ألف عنصر، ما يعني أن تكلفتهم الشهرية تزيد على 100 مليون دولار أميركي، خلا شؤون التسليح والخدمات والحاجات اللوجستية.
ثمة علاقة عميقة بين قطر وتركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، فنظاما حُكم البلدين كان ابتداءً من ذلك التاريخ جزءا مركزياً من المنظومة العالمية لجماعة الإخوان. لكن الشراكة الأمنية العسكرية والمالية بينهما بدأت فعلياً منذ بداية اندلاع الثورات العربية، ورغبة الطرفين في فرض أجندات الجماعات المتشددة في هذه البلدان.
ترافق ذلك الحدث مع متغيرين جوهريين منذ ذلك الوقت، فمن طرف صعدت دول المجموعة الخليجية من لهجتها تجاه سياسات قطر الإقليمية، وصارت المجموعة الخليجية تعتبرها مساً بالأمن العربي الخليجي، مما دفع قطر للاعتقاد بأن التغطية العسكرية التركية قد تحميها من الضغوط السياسية العربية. المسألة الأخرى تمثلت بتراجع أداء الاقتصاد التركي، وبالتالي تصاعد النقمة الشعبية على الرئيس أردوغان، الذي استنجد بالمال القطري لتغطية ضعف أدائه الاقتصادي.
تقول الأرقام المباشرة بأنه ثمة أكثر من 500 شركة تركية تعمل في قطر، وأنها تملك امتيازات خاصة ممنوحة من الحكومة القطرية، خصوصاً في مجالات المقاولات، التي تصل قيمة أحجامها المالية في السوق القطرية إلى 18.5 مليار دولار. كذلك فإن حجم الصادرات التركية يرتفع سنوياً بمعدل 10% منذ العام 2015.
لكن الأهم من تلك التفاصيل يتعلق بالتغطية المالية القطرية لقيمة الليرة التركية التي تتدهور دون توقف منذ 5 أعوام وحتى الآن، وقد بلغت أدنى سعر لها في تاريخها في التاسع من أكتوبر 2020، حينما صار الدولار الواحد يساوي 7.94 ليرة تركيا. فالأرقام التي أعلنتها قطر في صيف العام 2018، قالت إن تلك التغطية بلغت 15 مليار دولار، وقبل ذلك بعام واحد زعمت الحكومة التركية أن قطر قدمت 600 مليون دولار لتركيا من خلال صندوق الثروة السيادي. الأمر الآخر يتعلق بتمويل عشرات الآلاف من المقاتلين/المرتزقة في مختلف البلدان، رواتبهم وحاجاتهم وتسليحهم وتكاليف معيشتهم.
مراقبون متابعون لتداخل العلاقات الأمنية والاقتصادية يُشيرون إلى أن شبكات عالم الأعمال المتداخلة والمركبة بشكل معقد بين الطرفين يمكن أن تكون تغطية للتمويل غير الرسمي وغير المعلن الذي تقدمه قطر للجماعات المسلحة المرتبطة بتركيا. فالتصريحات التي أدلى بها رئيس جمعية الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك، عبد الرحمن أكآن، التي قال فيها إن بلاده تسيطر على قرابة ثلثي واردات قطر (3 مليارات من أصل 5 مليارات)، ليست واقعية، لأن حجم الحاجات القطرية من السوق التركية أصغر من ذلك بكثير، وهو ما قد يعني بأن جزء من تلك الأموال تذهب لتغطية أمور أخرى.
ثمة أمثلة لا تحصى على المشاركة القطرية المالية لأعمال "المليشيات التركية"، كما كتب رجب صوليو، في مقالة مطولة في دورية Middleeasteye، مشدداً على أن النموذج الليبي هو المثال الأكثر وضوحاً حول ذلك: "إن إنشاء مركز تنسيق ثلاثي في مصراتة، بين تركيا وقطر وحكومة الوفاق الوطني يشير إلى أن قطر ستساعد الآن رسميًا حكومة طرابلس لتعزيز دفاعاتها ضد منافستها في بنغازي، الجيش الوطني الليبي، على الرغم من الشائعات حول تمويل قطر للعديد من الجهود التركية في الخارج - بما في ذلك نشر المرتزقة السوريين الذين دربتهم تركيا في البلاد - فقد احتلت الدوحة دائمًا مقعدًا خلفيًا".
على أن تلك الشراكة المالية/الأمنية، والقبول القطري بدور الممول فحسب، ما كان له أن يحدث لولا التلاقي الإيديولوجي بين الطرفين، حسبما أشارت "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية" الأميركية FDD، في تقرير موسع نشرته كتبه "إيكان أدمير": "تركيا وقطر شقيقان كاملا في السلاح، تشترك كلتا الدولتين في الانجذاب إلى الإسلام السياسي الذي يشكل مشاركتهما الإقليمية، مدعومًا بالالتزامات الأيديولوجية المشتركة، يمتد التعاون التركي القطري إلى مجموعة متنوعة من القطاعات، بما في ذلك الدفاع والبنوك والإعلام والطاقة، ومن المرجح أن يزداد مع تعمق شراكتهما".
لكن الكاتب يعود للتحذير من تلك الشراكة وتقاسم الأدوار بين الطرفين: "يمثل المحور التركي القطري تحديًا للولايات المتحدة وشركائها، لأن أنقرة والدوحة لا يتابعان أشكالًا مشروعة من التعاون فحسب، بل يتابعان أيضًا مشاريع مشتركة في التمويل غير المشروع، ودعم المسلحين المتشددين في الخارج، والترويج للأيديولوجيات المتطرفة، وإيواء الإرهابيين المرتبطين بهم، كحماس والقاعدة".
يحدث ذلك في أماكن غير متوقعة من العالم، حسبما كتب "علي رجب" مقالة مطولة في دورية The Reference، عبر فيها عن قدرة هذه الشراكة على الإطاحة بكافة المناطق الإقليمية والهامشية حتى: "أن سياسة واشنطن في القرن الأفريقي لم تؤد إلى القضاء على الجماعات الإرهابية بسبب دعم تركيا وقطر للتنظيمات المتطرفة، كما تولى قادة سابقون في حركة الشباب رئاسة جهاز المخابرات والأمن الوطني الصومالي، بينما يُعرف مدير الجهاز فهد ياسين بالرجل القطري في مقديشو إلى جانب نائبه، وبذا فإن الإرهابيين تمكنوا من التسلل إلى جهاز الأمن الوطني وأجهزة الأمن الوطني بشكل عام في الصومال وكامل القرن الأفريقي".
{{ article.visit_count }}
ثمة ارتباط مُحكم بين الانخراط التركي في أي ملف عسكري أو أمني خارجي، وبين الزيارات التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العاصمة القطرية الدوحة. إذ طوال السنوات الماضية، وبشكل منتظم، جاءت زيارة أردوغان إلى الدوحة عقب التدخلات التركية في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط، ومؤخراً في الصراع الأذربيجاني الأرمني.
لا يتعلق الأمر بمستوى متين من التحالف السياسي بين الطرفين، فتركيا تدخلت في كافة هذه الملفات، دون أية استشارة أو مشاركة عسكرية أو أمنية أو سياسية قطرية، خلا بعض المساهمة الرمزية في ذلك. بل ينزاح الدور القطري لأن يكون مالياً فحسب، أو بمقولة أدق تمويلياً. فاستراتيجية أردوغان التدخلية في الملفات الخارجية كانت تفتقر دوماً لحيوية مالية، وذلك لسببين مركبين: فتركيا ليست دولة غنية بالموارد، وأغلب موارد الأجهزة الأمنية تأتي من ميزانية الجيش ووزارة الدفاع، ولا تستطيع أن تتصرف بها خارج البنود التي يتم إقرارها.
الأمر الآخر يتعلق ببنية النظام السياسي التركي، فكل اشكال الشمولية التي يحاول أردوغان فرضها منذ سنوات، لم تخوله حاكماً مطلقاً على البلاد، إذ ثمة معارضة وإعلام مستقل نوعاً ما، لم يتمكن حتى الآن من طمسها، وبالتالي لا يمكنه تنفيذ حملات تمويل للمليشيات المسلحة، لأن ذلك سيكون محل ملاحظة هذه القوى، وستفضحه بسبب ذلك.
كانت قطر الحل المناسب لذلك. إذ تقول معظم التقارير الرصينة بشأن مصادر تمويل "المليشيات التركية"، بأن قطر وحدها تستطيع تغطية تلك التكلفة الضخمة. فحسب أبسط الحسابات يصل أعداد تلك الميليشيات في سوريا وليبيا وأذربيجان إلى نحو 50 ألف عنصر، ما يعني أن تكلفتهم الشهرية تزيد على 100 مليون دولار أميركي، خلا شؤون التسليح والخدمات والحاجات اللوجستية.
ثمة علاقة عميقة بين قطر وتركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، فنظاما حُكم البلدين كان ابتداءً من ذلك التاريخ جزءا مركزياً من المنظومة العالمية لجماعة الإخوان. لكن الشراكة الأمنية العسكرية والمالية بينهما بدأت فعلياً منذ بداية اندلاع الثورات العربية، ورغبة الطرفين في فرض أجندات الجماعات المتشددة في هذه البلدان.
ترافق ذلك الحدث مع متغيرين جوهريين منذ ذلك الوقت، فمن طرف صعدت دول المجموعة الخليجية من لهجتها تجاه سياسات قطر الإقليمية، وصارت المجموعة الخليجية تعتبرها مساً بالأمن العربي الخليجي، مما دفع قطر للاعتقاد بأن التغطية العسكرية التركية قد تحميها من الضغوط السياسية العربية. المسألة الأخرى تمثلت بتراجع أداء الاقتصاد التركي، وبالتالي تصاعد النقمة الشعبية على الرئيس أردوغان، الذي استنجد بالمال القطري لتغطية ضعف أدائه الاقتصادي.
تقول الأرقام المباشرة بأنه ثمة أكثر من 500 شركة تركية تعمل في قطر، وأنها تملك امتيازات خاصة ممنوحة من الحكومة القطرية، خصوصاً في مجالات المقاولات، التي تصل قيمة أحجامها المالية في السوق القطرية إلى 18.5 مليار دولار. كذلك فإن حجم الصادرات التركية يرتفع سنوياً بمعدل 10% منذ العام 2015.
لكن الأهم من تلك التفاصيل يتعلق بالتغطية المالية القطرية لقيمة الليرة التركية التي تتدهور دون توقف منذ 5 أعوام وحتى الآن، وقد بلغت أدنى سعر لها في تاريخها في التاسع من أكتوبر 2020، حينما صار الدولار الواحد يساوي 7.94 ليرة تركيا. فالأرقام التي أعلنتها قطر في صيف العام 2018، قالت إن تلك التغطية بلغت 15 مليار دولار، وقبل ذلك بعام واحد زعمت الحكومة التركية أن قطر قدمت 600 مليون دولار لتركيا من خلال صندوق الثروة السيادي. الأمر الآخر يتعلق بتمويل عشرات الآلاف من المقاتلين/المرتزقة في مختلف البلدان، رواتبهم وحاجاتهم وتسليحهم وتكاليف معيشتهم.
مراقبون متابعون لتداخل العلاقات الأمنية والاقتصادية يُشيرون إلى أن شبكات عالم الأعمال المتداخلة والمركبة بشكل معقد بين الطرفين يمكن أن تكون تغطية للتمويل غير الرسمي وغير المعلن الذي تقدمه قطر للجماعات المسلحة المرتبطة بتركيا. فالتصريحات التي أدلى بها رئيس جمعية الأعمال والصناعيين المستقلين الأتراك، عبد الرحمن أكآن، التي قال فيها إن بلاده تسيطر على قرابة ثلثي واردات قطر (3 مليارات من أصل 5 مليارات)، ليست واقعية، لأن حجم الحاجات القطرية من السوق التركية أصغر من ذلك بكثير، وهو ما قد يعني بأن جزء من تلك الأموال تذهب لتغطية أمور أخرى.
ثمة أمثلة لا تحصى على المشاركة القطرية المالية لأعمال "المليشيات التركية"، كما كتب رجب صوليو، في مقالة مطولة في دورية Middleeasteye، مشدداً على أن النموذج الليبي هو المثال الأكثر وضوحاً حول ذلك: "إن إنشاء مركز تنسيق ثلاثي في مصراتة، بين تركيا وقطر وحكومة الوفاق الوطني يشير إلى أن قطر ستساعد الآن رسميًا حكومة طرابلس لتعزيز دفاعاتها ضد منافستها في بنغازي، الجيش الوطني الليبي، على الرغم من الشائعات حول تمويل قطر للعديد من الجهود التركية في الخارج - بما في ذلك نشر المرتزقة السوريين الذين دربتهم تركيا في البلاد - فقد احتلت الدوحة دائمًا مقعدًا خلفيًا".
على أن تلك الشراكة المالية/الأمنية، والقبول القطري بدور الممول فحسب، ما كان له أن يحدث لولا التلاقي الإيديولوجي بين الطرفين، حسبما أشارت "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية" الأميركية FDD، في تقرير موسع نشرته كتبه "إيكان أدمير": "تركيا وقطر شقيقان كاملا في السلاح، تشترك كلتا الدولتين في الانجذاب إلى الإسلام السياسي الذي يشكل مشاركتهما الإقليمية، مدعومًا بالالتزامات الأيديولوجية المشتركة، يمتد التعاون التركي القطري إلى مجموعة متنوعة من القطاعات، بما في ذلك الدفاع والبنوك والإعلام والطاقة، ومن المرجح أن يزداد مع تعمق شراكتهما".
لكن الكاتب يعود للتحذير من تلك الشراكة وتقاسم الأدوار بين الطرفين: "يمثل المحور التركي القطري تحديًا للولايات المتحدة وشركائها، لأن أنقرة والدوحة لا يتابعان أشكالًا مشروعة من التعاون فحسب، بل يتابعان أيضًا مشاريع مشتركة في التمويل غير المشروع، ودعم المسلحين المتشددين في الخارج، والترويج للأيديولوجيات المتطرفة، وإيواء الإرهابيين المرتبطين بهم، كحماس والقاعدة".
يحدث ذلك في أماكن غير متوقعة من العالم، حسبما كتب "علي رجب" مقالة مطولة في دورية The Reference، عبر فيها عن قدرة هذه الشراكة على الإطاحة بكافة المناطق الإقليمية والهامشية حتى: "أن سياسة واشنطن في القرن الأفريقي لم تؤد إلى القضاء على الجماعات الإرهابية بسبب دعم تركيا وقطر للتنظيمات المتطرفة، كما تولى قادة سابقون في حركة الشباب رئاسة جهاز المخابرات والأمن الوطني الصومالي، بينما يُعرف مدير الجهاز فهد ياسين بالرجل القطري في مقديشو إلى جانب نائبه، وبذا فإن الإرهابيين تمكنوا من التسلل إلى جهاز الأمن الوطني وأجهزة الأمن الوطني بشكل عام في الصومال وكامل القرن الأفريقي".