العين الإخبارية
ما زال الشيخ محمد رفعت، قارئ القرآن الأشهر في مصر والعالم الإسلامي، يحظى بإعجاب وولع عشاق الذكر الحكيم رغم مرور 72 عاما على رحيله.
وتصدر الشيخ محمد رفعت، ولقبه الأشهر "قيثارة السماء"، اهتمامات رواد مواقع التواصل الاجتماعي ومرتادي محركات البحث العالمية بمناسبة الذكرى الـ 140 لمولده وهي نفسها الذكرى الـ72 لرحيله، حيث ولد ورحل في نفس اليوم، وهو التاسع من مايو/ أيار.
وبدأت شهرة الشيخ محمد رفعت حين تولى القراءة رسميا بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، سنة 1918، وكان في سن الـ15، ورغم مرور 72 عاما على وفاته؛ لا يزال صوته جزءا من الطقوس الرمضانية التي تسبق رفع الأذان عند صلاة المغرب في مصر.
ولد الشيخ محمد رفعت عام 1882 بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، لعائلة من عائلات الطبقة الوسطى، وكان والده ضابطا بقسم الجمالية. وقد تلقى تعليما دينيا في أحد الكتاتيب، وبدأ حفظ القرآن الكريم في كُتّاب "بشتاك"، الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، تمهيدا لالتحاقه بالأزهر الشريف قبل ظهور الجامعة المصرية 1908.
وبعد 6 سنوات، رشحه شيخه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة القريبة، فدرس علم القراءات والتجويد لمدة عامين على الشيخ عبدالفتاح هنيدي، صاحب أعلى سند في وقته، ونال إجازته.
وحين توفي والده محمود رفعت، مأمور قسم شرطة الجمالية، وكان حينها بعمر الـ9، وجد الطفل اليتيم نفسه مسؤولا عن أسرته المؤلفة من والدته وخالته وأخته وأخيه "محرم"، وأصبح عائلها الوحيد.
وبعد أن كانت النية تتجه إلى إلحاقه للدراسة في الأزهر، بدأ وهو ابن 14 عاما في إحياء بعض الليالي في القاهرة، بترتيل القرآن الكريم، وبعدها صار يدعى لترتيل القرآن في الأقاليم.
لكن شهرة "رفعت" بدأت حين تولى القراءة رسميا بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، سنة 1918، وكان في سن الـ15، فبلغ شهرة كبيرة، وكان الالتفاف حول صوت الشيخ رفعت ملمحا من ملامح أيام ثورة 1919.
وكان "رفعت" وهو يقرأ يبكي تأثرا؛ حتى إنه انهار مرة وهو في الصلاة عندما كان يؤم المصلين، إذ كان يتلوا آية فيها موقف من مواقف عذاب الآخرة.
ومع بدء بث الإذاعة المصرية الرسمية سنة 1934، كان صوت رفعت الصوت الأول الذي خرج منها، بعد أن تم الحصول على فتوى من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فافتتحها "رفعت" بالآية الأولى من سورة الفتح "إنا فتحنا لك فتحا مبينا".
وبعدها طلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" العربية تسجيل القرآن الكريم بصوته، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر، وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.
وعلى الرغم من الشهرة التي حققها؛ فإنه استمر في قراءة القرآن في مسجد الأمير مصطفى فاضل حتى اعتزاله، من باب الوفاء للمسجد الذي شهد ميلاده في عالم القراءة منذ الصغر.
واستفاد الشيخ "رفعت" من معرفته الدقيقة بفنون التلاوة، إلى جانب دراسة المقامات الموسيقية، فضلا عن التوسع في دراسة الموسيقى الغربية، لدرجة أنه ترك ثروة كاملة من أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، ضمت أعمالا لموتسارت، وبرامز، وبيتهوفن، وفرانز ليست، وباخ.
وتحول الشيخ محمد رفعت إلى أسطورة، وارتبطت به عدة روايات شعبية، يصعب التأكد تماما من صحتها، لكنها ظلت لصيقة بسيرته. وهناك قصة عن ضابط كندي كان ضمن قوات الحلفاء في مصر، طلب من مدير الإذاعة أن يسهل له مقابلة الشيخ رفعت، وحين التقاه فوجئ بأنه أعمى وبكى، وقال لمن معه: "الآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض من صوته العبقري".
ويروي الكاتب محمود السعدني، في كتابه "ألحان السماء"، جملة من القصص والحكايات، منها أن جمهور الإذاعة هدد بمقاطعتها عندما اختلفت مع الشيخ رفعت على الأجر، وهدد المواطنون بعدم دفع ضريبة الاستماع إلى الراديو طالما أن الإذاعة لن تحمل لهم صوته.
وطوال حياته، تصرف محمد رفعت مع صوته كهبة من الله، وعلى الرغم من أنه كان صاحب الأجر الأعلى بين مقرئي عصره، وكان أجره الأعلى حتى مقارنة بمطربي عصره محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، فقد كان يحصل وحده على 100 جنيه مصري مقابل إحياء ليلة العزاء وليالي رمضان، إلا أنه كان يقرأ في مساجد حي السيدة زينب يوميا لعموم الناس الذين صانوا تراثه في التلاوة مجانا.
وحين مات الشيخ رفعت، اعتمدت الإذاعة على فيض من التسجيلات كان لدى رواد الليالي التي كان يحييها في مساجد مصر، وعلى رأسهم زكريا باشا مهران، أحد أعيان مركز القوصية في محافظة أسيوط، وعضو مجلس الشيوخ المصري، والذي يعود له الفضل في حفظ تراث الشيخ رفعت الذي نسمعه حاليا.
وفي نهاية حياته، أصيب الشيخ رفعت بمرض نادر في حنجرته، أدى لاحتباس صوته إلى الأبد منذ عام 1943 وحتى وفاته عام 1950، ولأجل العلاج، أنفق كل ما يملك، لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى إنه اعتذر عن قبول المبلغ الذي جمع في اكتتاب (بحدود 50 ألف جنيه) لعلاجه، رغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته المشهورة "إن قارئ القرآن لا يُهان".
وحين مات، أقسم جزار كان من بين جمهوره بأن يدفن الشيخ في مقبرة أعدها خصيصا لتحمل جثمان الشيخ الراحل الذي قال مفتي سوريا عند موته إن هذا الرجل جدد الإسلام كما لم يفعل أحد.