بين الربيع والصيف، تعرّضت القوات الأوكرانية لهجوم مدفعي روسي في شرق أوكرانيا، وخسرت أراضي بشكل مطرد ونحو 200 جندي يومياً، في مواجهة غير متكافئة. ولكن في الأسابيع الأخيرة، بدّلت كييف استراتيجيتها، بمساعدة من أسلحة جديدة تسلّمتها، ونجحت في إبطاء تقدّم الجيش الروسي، حتى الآن.

وزُودت أوكرانيا بترسانة متنامية من الأسلحة الغربية بعيدة المدى، كما تلقت مساعدة من مسلحين محليين، وتمكّنت من استهداف القوات الروسية وراء خطوط العدوّ، وتعطيل خطوط إمداد حاسمة، كما ضربت على نحو متزايد، أهدافاً أساسية بالنسبة إلى موسكو، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".

هذه الأسلحة الجديدة أرغمت روسيا على تبديل معايير القتال في ساحة المعركة، ممّا أتاح للأوكرانيين مجالاً لالتقاط الأنفاس، من أجل اتخاذ مزيد من القرارات الاستراتيجية.

"استراتيجية مختلفة"

تمثّلت إحدى الضربات التي تلقاها الروس، في انفجارات هزّت قاعدة جوية بشبه جزيرة القرم الأسبوع الماضي، ودمّرت ما لا يقلّ عن 8 طائرات حربية. وتحدث مسؤول أوكراني عن غارة نفذتها قوات خاصة، بمساعدة من مسلحين محليين.

كان هذا النهج مناسباً بشكل خاص لمنطقة خيرسون، جنوب البلاد، حيث انخرط مسؤولون أوكرانيون منذ أسابيع، في إطلاق هجوم مضاد. وتُعتبر خيرسون أكثر عرضة للخطر من المدن المحتلة الأخرى، إذ تعتمد في تلقي الإمدادات على 4 جسور تمتد على نهر دنيبر.

وزعم الأوكرانيون، السبت، أنهم ضربوا آخر الجسور الأربعة الأساسية، في خطوة قد تؤدي إلى عزل آلاف من الجنود الروس وتحرمهم من الإمدادات، بحسب مسؤولين استخباراتيين غربيين.

وقال وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف الأسبوع الماضي: "لا نملك الموارد اللازمة لنشر جثث وقذائف في الأراضي، كما تفعل روسيا. لذلك، من الضروري تغيير التكتيكات والقتال بطريقة مختلفة".

إبطاء التقدم الروسي

يبدو أن الاستراتيجية تسفر عن نتائج إيجابية. ففي حين أن الجيش الأوكراني لم يحقق مكاسب كبرى على الأرض، فقد تمكّن من إبطاء التقدّم الروسي في كل أنحاء البلاد، ووقف الخسائر الفادحة التي تكبّدتها كييف في الأشهر الأخيرة، التي مسّت الروح المعنوية ودفعت جنوداً إلى هجر وحداتهم، بحسب "نيويورك تايمز".

لكن الروس واصلوا ضغوطهم في الشرق والجنوب، على مواقع الخطوط الأمامية الأوكرانية، وبعضها يتراجع ببطء. وأشار التقدّم التدريجي إلى أن الروس لا تزال لديهم قوات كافية لمواصلة عمليات هجومية، رغم الانتكاسات الناجمة عن الهجمات الأوكرانية.

جهود أوكرانيا في الجنوب لا تشكّل تغييراً في النهج، بمقدار ما تمثّل امتداداً لاستراتيجية اعتُمدت في بداية الحرب وتستهدف تحقيق تكافؤ مع روسيا، بمساعدة من أسلحة جديدة بعيدة المدى. ومع تفوّق هائل للجيش الروسي على القوات الأوكرانية، من حيث عدد الجنود والأسلحة والذخيرة، كان على الجيش الأوكراني أن يكون مبتكراً وذكياً.

وقال صمويل بينديت، وهو محلل للأسلحة الروسية في "مركز التحليلات البحرية" (مقره فرجينيا): "واضح أن الأوكرانيين لا يستطيعون مضاهاة الروس، وحدة في مقابل وحدة وجندي في مقابل جندي. كما أن (عدد) الجنود يتضاءل في أوكرانيا، مثل الروس. لذلك يجب أن تكون أوكرانيا حصيفة جداً في كيفية تشتيت القوات الروسية".

هجمات خاطفة

نجحت أوكرانيا في صدّ مساعي موسكو للاستيلاء على كييف، من خلال استخدام وحدات قتالية أصغر وقادرة على التكيّف، استغلّت ميزتها الميدانية لشنّ هجمات خاطفة على القوات الروسية، التي تركّزت في طوابير ضخمة، جعلتها أهدافاً سهلة.

في شرق أوكرانيا، مع سهوله الواسعة والمتدحرجة، تمكّنت روسيا في البداية من الاستفادة من تفوّقها، في عدد الجنود والقوة النارية، ممّا أنهك القوات الأوكرانية من خلال قصف مدفعي بلا هوادة قبل التحرّك للاستيلاء على أراضٍ.

لكن تسلّم أوكرانيا مدفعية جديدة بعيدة المدى، مثل منظومة "هيمارس" الصاروخية الأميركية الصنع، مكّنها من إبطاء تقدّم الجيش الروسي وتحويل بعض الانتباه إلى ما يعتبره الجنرالات الأوكرانيون مناطق أكثر فائدة في الجنوب.

إحباط القوات الروسية

في تلك المنطقة، لا سيّما في خيرسون، التي كانت أول منطقة خسرتها أوكرانيا أمام القوات الروسية، تأمل كييف بأن تبدأ بقلب دفّة الحرب. من خلال استخدام "هيمارس" وأسلحة أخرى بعيدة المدى، قلّصت القوات الأوكرانية قدرة موسكو على تأمين إمدادات لقواتها التي تسيطر على الأراضي الواقعة غرب نهر دنيبر، بما في ذلك خيرسون، التي سيطرت عليها القوات الروسية منذ الأسابيع الأولى للحرب.

وأدرج سيرجي خلان، وهو مستشار لرئيس الإدارة العسكرية لمنطقة خيرسون، تدمير الجسر الأخير المتبقي فوق نهر دنيبر السبت، في إطار استراتيجية تعتمدها أوكرانيا لإحباط القوات الروسية.

وقال: "بالطبع سيحاولون إصلاح (الجسور) والبحث عن بديل في المعابر. لكن (الأمر يتطلّب) وقتاً ومالاً، وبعد ذلك بمجرد أن يستعدوا ويكتسبوا معدات وقوة، سندمّرها مرة أخرى".

ذكر قادة أوكرانيون أن الفكرة تكمن في جعل الظروف لا تُطاق، لدرجة أن تسحب موسكو قواتها عبر نهر دنيبر من تلقاء نفسها، في مواجهة هجوم مضاد أوكراني متوقّع.

وقال فيتالي كيم، رئيس الإدارة العسكرية لمنطقة ميكولايف، الأسبوع الماضي: "جنودنا مبدعون وتقدميون، فيما يعمل الروس وفقاً (لنص محدّد سلفاً)، وينشرون تشكيلات قتالية كما أُعدّت في الاتحاد السوفيتي. رجالنا قرأوا هذا النص وفهموه جيداً، ويستخدمونه لتحقيق أهدافهم الخاصة".

"تكتيكات مفرمة اللحم"

في شرق أوكرانيا، تركّز الجهود الروسية الأساسية الآن على محاولة كسب أراضٍ في منطقة دونيتسك، كما شهدت المنطقة المحيطة ببلدة بيسكي قتالاً عنيفاً في الأيام الأخيرة.

وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، السبت، سقوط البلدة، في زعم لا يمكن التحقق منه بشكل مستقلّ، بحسب "نيويورك تايمز".

وبات الأوكرانيون ينفذون هجمات تقوّض قدرة موسكو في الحفاظ على القوات التي نشرتها في الجبهة. وقال أندري ريجينك، وهو مسؤول عسكري أوكراني بارز سابق، يعمل الآن مستشاراً في "مركز استراتيجيات الدفاع"، وهو مؤسسة فكرية أوكرانية: "نبحث عن نقاط ضعف للروس، ونحدّد النقاط الحرجة للعدوّ ونستنزفها تدريجاً".

وأشار وزير الدفاع الأوكراني إلى نصيحة تلقاها من نظيرَيه الأميركي والبريطاني، مفادها: "الروس يستخدمون تكتيكات مفرمة اللحم. إذا كنتم تخططون لمقاتلتهم بالتكتيكات ذاتها، فلن نتمكّن من مساعدتكم".

أهمية القرم

تشكّل سيطرة موسكو على القرم، التي ضمّتها في عام 2014، أمراً حاسماً بالنسبة إلى جهودها للاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها في جنوب أوكرانيا. وقبل بدء الغزو، في 24 فبراير، أرسلت موسكو عشرات الآلاف من الجنود إلى شبه الجزيرة، الذين نجحوا خلال أيام، في السيطرة على مساحات شاسعة من منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

منذ ذلك الحين، كانت خطوط السكك الحديد من القرم حاسمة في تمكين موسكو من نقل أسلحة ومعدات ثقيلة إلى جنوب أوكرانيا.

وفي الأسبوع الماضي، أعلنت أجهزة الاستخبارات الدفاعية البريطانية أن الأوكرانيين استهدفوا خط سكة حديد أساسياً من شبه الجزيرة، ممّا يجعل "من غير المرجح أن يبقى خط السكك الحديد الذي يربط خيرسون بالقرم، عملانياً".

ورجّحت الاستخبارات البريطانية أن يصلح الروس هذا الخط، مستدركة أن الهجوم سلط الضوء على نقطة ضعف خطرة. فنهر دنيبر يشطر المنطقة الجنوبية إلى قسمين، وستبقى الهياكل نقطة ضعف محتملة، ولو تمكّنت موسكو من إجراء إصلاحات مهمة للجسور التي ضربتها القوات الأوكرانية، بحسب لندن.