رويترز
في مدينة طرابلس شمالي لبنان، التي ينحدر منها أغنى السياسيين بالبلاد، ينعى السكان الأشد فقراً موتاهم، الذين هلكوا أثناء محاولة للهجرة إلى أوروبا.

ومن بين هؤلاء مصطفى ميستو، الذي كان سائق سيارة أجرة في المدينة، وأطفاله الثلاثة الذين تم العثور على جثثهم قبالة الساحل السوري الخميس، بعدما غادروا لبنان على متن قارب مهاجرين يُقل أكثر من مئة شخص.

وقال وزير النقل اللبناني علي حمية لوكالة "رويترز" إن 95 شخصاً لقوا حتفهم في الحادث، بينهم 24 طفلاً و31 امرأة.

"رحلة أمل، ليست رحلة انتحار"

وهذا هو أكبر عدد من الضحايا حتى الآن في مثل هذه الرحلات البحرية التي تنطلق من لبنان، حيث يضغط اليأس المتصاعد على مزيد من الناس لمحاولة خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر على متن قوارب متهالكة ومكتظة، للبحث عن حياة أفضل في أوروبا.

وقبل الانطلاق في الرحلة المشؤومة، تراكمت الديون على ميستو بشكل كبير، وباع سيارته وذهب والدته، لتوفير الطعام لأسرته، إلا أنه ظل غير قادر على توفير أشياء بسيطة مثل الجبن لشطائر أطفاله، حسب أقاربه وجيرانه.

وقالت روان المانع (24 عاما) وهي من أقاربه إن من يقوم بهذه الرحلة يعلم أنه ذاهب إلى الموت، ولكنه يتعلق بأمل الوصول إلى نتيجة.

وحاولت عدة قوارب أخرى الإبحار من لبنان الأسبوع الماضي، وأنقذت قبرص 477 شخصاً كانوا على متن سفينتين غادرتا لبنان.

وتقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن 3460 شخصاً غادروا لبنان أو حاولوا مغادرته عن طريق البحر منذ بداية هذا العام، أي ما يعادل أكثر من مثلي العدد خلال عام 2021 كاملاً.

ومن بين ضحايا القارب الذي كان يحمل ميستو، امرأة وأطفالها الأربعة من منطقة عكار بشمال لبنان.

وأوضح يحيى الرفاعي رئيس بلدية القرقف، التي ينحدرون منها، أن الوالد كان واحداً من بين عدد قليل من الناجين. ووصف الأزمة بأنها أسوأ من الحرب الأهلية.

فقر بمدينة الأغنياء

وسلطت المأساة الضوء على الفقر المتزايد في شمال لبنان، لا سيما في طرابلس، وهو ما يدفع المزيد من السكان للإقدام على خطوات يائسة مع استمرار الانهيار المالي المدمر لثلاث سنوات.

كما سلطت الضوء على التفاوتات الصارخة والحادة بشكل خاص في الشمال، فطرابلس هي مسقط رأس عدد من السياسيين الأثرياء، ومع ذلك لم تحظ المدينة إلا بالقليل من التنمية أو الاستثمار.

ورغم أن كثيرين من زعماء الطوائف في لبنان ينفقون الأموال في مجتمعاتهم لحشد الدعم السياسي، يقول سكان طرابلس إن منطقتهم تعاني من الإهمال رغم ثراء سياسييها.

وخلال تجمع للمعزين في منطقة باب الرمل الفقيرة بطرابلس، عبر كثيرون عن غضبهم إزاء السياسيين المنحدرين من المدينة، ومن بينهم رئيس الوزراء اللبناني الملياردير نجيب ميقاتي.

وكانت طرابلس، وهي ثاني أكبر مدينة في لبنان بعدد سكان يبلغ نحو نصف مليون نسمة، من أفقر مدن البلاد، وحتى أنها حصلت على لقب "أم الفقير"، وذلك قبل أن يهوي لبنان في أزمة مالية نتيجة عقود من الفساد وسوء إدارة النُخب الحاكمة.

وقال مهند الحاج علي، الباحث في "مركز كارنيجي للشرق الأوسط"، إن طرابلس لم تشهد أي جهود إنمائية كبيرة منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، على الرغم من الصعود السياسي لرجال أعمال أثرياء من المدينة.

منطقة مضطربة

في انعكاس لفقدان التواصل بين الناس والسياسيين في طرابلس والاعتقاد بأن شيئاً لن يتغير، صوت ثلاثة فقط بين كل عشرة من سكان المدينة في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في مايو.

وشمال البلاد أحد أكثر مناطق لبنان اضطراباً منذ نهاية الحرب الأهلية، إذ أن طرابلس والمناطق المحيطة بها بيئة خصبة لتجنيد المقاتلين من الشباب السُنة.

وصارت طرابلس في الآونة الأخيرة مثالاً للوضع الأمني المتدهور المرتبط بالانهيار المالي، وأعلن وزير الداخلية بسام مولوي خطة أمنية جديدة بعد تصاعد الجرائم والعنف.

وبحسب سكان من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، فإن العشرات ممن كانوا على متن القارب المنكوب هم من سكان المخيم المترامي الأطراف. كما كان هناك الكثير من السوريين، الذين يعيش نحو مليون منهم في لبنان بصفة لاجئين.

وأدت الأزمة الاقتصادية إلى ارتفاع هائل في معدلات الفقر. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة فإن 80 بالمئة من سكان لبنان البالغ عددهم زهاء 6.5 مليون نسمة فقراء. ولم تفعل الحكومة شيئاً يُذكر لمعالجة الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنها ركود متعمد "دبرته" النخبة من خلال إحكام قبضتها الاستغلالية على الموارد.