إرم نيوز
ظلّ كرد علي على موقفه في الدفاع عن العربية والعروبة في جميع المنابر والمؤلفات والمؤتمرات والمناصب التي شغلها، بعد 77 عاماً قضاها في البحث والعمل والعلم ونَشْرِه.

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مثل هذا اليوم (18 ديسمبر) من عام 1973 قرارا أقرت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، واعتبر من حينها يوماً عالمياً للغة العربية.

وسنستغل هذه المناسبة للتعريف بعلّامة الشام "محمد كرد علي" (1876-1953م)، لما له من دور كبير في إحياء تلك اللغة والدفاع عنها وتعزيز مكانتها.

ولد محمد كرد علي في دمشق عام 1876، لأم شركسية وأسرة من أكراد السليمانية في العراق، ولم يمنعه اعتزازه بذاك الانتماء، من أن يصبح واحداً من ألمع العروبيين والمنافحين عن العربية.

ورغم أنّه تعلَّم الفرنسية في طفولته على يد مدرّس خاص، كما درس آدابها لعامين في مدرسة اللعازاريين، فإنه صار من أشدّ المدافعين عن الحضارة العربية ضد الغربية.

دعَمَه في ذلك اطلاعه الكبير وسعة معرفته، ليس فقط في ما يتعلق بالعلوم العربية، وإنما تعمُّقه في فهم الغرب وفلسفتهم وعلومهم، وبذلك جمع المجد من أطرافه، خاصةً أنه لم يكتفِ بالاطلاع المارق على أمهات الكتب، وإنما كان يتفحَّصها تفحُّص الدارس والراغب بالاستزادة والاستنارة حتى صار مرجعيةً للكثيرين عرباً وأجانب.

يُضاف إلى ذلك سيرة حياته المتقلبة، والضغوطات الكثيرة عليه من قبل السلطات العثمانية، وبَعْدَها الفرنسية، التي زادت من إصراره على مواقفه، ومن إيمانه بضرورة دوره في الدفاع عن الحضارة العربية.

كان عُروبياً مؤمناً بالعربية وأهلها، ولا يرى العروبة تنفصل عن الإسلام في شيء، لذا وقف بالمرصاد للشعوبيين، يردّ طعونهم على العرب والإسلام، ويفنّد حججهم بحجج وبراهين راسخة.

واجه "علَّامة الشّام" بحزم الدعوات لكتابة العربية بالحروف اللاتينية، وحذّر كثيراً من أخطارٍ بعينها تحيق باللغة العربية.

حفل كتابه "الإسلام والحضارة الغربية" (1934م) بالكثير من النقولات عن الأعلام الأجانب المنصِفين، وتتبَّع المقالات المسيئة للشعوبيين والمستشرقين مناقشاً ومُفنّداً إياها، وله في هذا السياق مؤّلفاتٌ أخرى مثل: غرائب الغرب (1922م)، الإدارة في عزّ العرب (1934م)، أقوالنا وأفعالنا (1946م)، كنوز الأجداد (1950م)، وأيضاً ترجمته كتاب "تاريخ الحضارة" لشارل سنيوبوس.

لم يقف "كُرد علي" في معركته من أجل الحضارة ولغتها موقف ردّ الفِعل، وإنما عمد إلى الفعل المؤثّر من خلال إحياء اللغة العربية، فمنذ عام 1906 أنشأ مجلة "المقتبس" الأدبية العلمية الجامعة في القاهرة، ومن خلالها عمل على إبراز ذخائر تراث العرب اللغوي والبلاغي، مصرّحاً بقوله: "خير ما يخرج لطلاب الآداب العربية في هذا العهد كلام أئمة البلاغة من أهل القرون الأولى"، وعندما عاد إلى دمشق في عام 1908م تابع إصدارها من هناك، ثم عطّلتها له السلطات العثمانية في العام التالي بسبب نقده اللاذع لها، فهرب إلى باريس.

كل ذلك زاد من إصراره وتمسُّكه بمواقفه. تلقَّف في فرنسا مزيداً من العلوم، إذ درس مَدَنِيَّتها واستفاد من لقاء علمائها وساستها، ووقف على حركتها العلمية والسياسية، بمساعدة جماعة من أصدقائه علماء المشرقيات، الذين عرّفوه إلى الطبقة الثقافية العليا في العاصمة الفرنسية، وفي مقدّمتهم فيلسوف فرنسا "إميل بوترو"، الذي زوده بأسماء أمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، اشتراها ودرسها بتعمُّق الباحث، ثم عاد إلى دمشق.

وما إن تولى ديوان المعارف في عهد الأمير فيصل بن الحسين عام 1919م، حتى حوَّله إلى "المجمع العلمي العربي"، كما أسّس مجمعا للغة العربية في الوطن العربي عام 1919م في دمشق، الأمر الذي شهد له به الأمير مصطفى الشهابي بالقول: "لو لم يكن لمحمد كرد علي من فضل على الأمة العربية ولغتها إلا إيجاد المجمع ورعايته، لكفاه فخراً".

عبر المجمع واجه "علَّامة الشّام" بحزم الدعوات لكتابة العربية بالحروف اللاتينية، وحذّر كثيراً من أخطارٍ بعينها تحيق باللغة العربية، لخّصها في ثلاثة محاذير: "اختراع خط جديد يراد به الاستغناء عن الشكل، وتبسيط قواعد اللغة العربية، واختيار الحروف اللاتينية لكتابة الحروف العربية".

قال عنه علّامة العراق محمد بهجة الأثري: "أمّة في رجل، أهّلته مواهبه العديدة لأن يكون أحد بناة النهضة الحديثة وقادتها الكبار في بلاد العرب، وسيرته مثال ناصع لمضاء العزيمة وخلوص النية وصدق العمل وحبّ الخير وإرادة الإصلاح".

وفي عام 1925م بدأ بطبع كتابه الشهير "خطط الشام" في دمشق، بعد اعتذاره عن تولي منصب وزارة المعارف مرة أخرى. وفي السنة ذاتها مثّل بلاده في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة أكسفورد، لكونه ذائع الصيت بمعرفته المتينة بـالمستشرقين والمستعربين، ما دفعه لأن يتبنّى موقفاً متّزناً إزاءهم.

وفي الوقت الذي كان يسرع فيه إلى الردّ على المستشرقين المتعصّبين الطاعنين في العرب والمسلمين ولغتهم ودينهم، كان بالمقابل يثني على جهودهم وعنايتهم بإحياء أمهات الكتب التراثية العربية والإسلامية، خصوصاً تلك الجهود التي تتمّ في سياق عِلمي غير مُغرِض.

وفيما يتعلق بالتاريخ لجأ "كُرد علي" إلى منهجية تجرِّد التأريخ من المبالغات والخرافات، مع تثبيت الوقائع المهمّة التي تخلو من الشوائب، فضلاً عن العناية في التاريخ السياسي ببيان عِلل الحوادث وتسلسلها ودواعيها، واستخراج النتائج واستنباط القواعد، حسب ما أوضحه في مقدّمة كتابه "خطط الشام".

ولا ينكر أحد دور الصحافة في تكوين "كرد علي" التي قضى فيها ردحاً من عُمره، إذ رأى أنها أنسب أداةٍ يستعملها للمطالبة بالإصلاح، لذا بدأ حياته في العمل الصحفي محرراً ومُشرفاً على ثلاث صحف مصرية: هي الرائد، والظاهر، والمؤيد.

وهذا قبل أن ينفرد بإصدار مجلّته الأشهر "المقتبس" في القاهرة، ثم في دمشق، إضافة إلى مقالاته التي نشرها في صحف الأهرام والثقافة ومجلات الرسالة والمقتطف والهلال.

وظلّ على موقفه في الدفاع عن العربية والعروبة في جميع المنابر والمؤلفات والمؤتمرات والمناصب التي شغلها حتى وافته المنية في الثاني من نيسان 1953، بعد 77 عاماً قضاها في البحث والعمل والعلم ونَشْرِه.

قال عنه علّامة العراق محمد بهجة الأثري "أمّة في رجل، أهّلته مواهبه العديدة لأن يكون أحد بناة النهضة الحديثة وقادتها الكبار في بلاد العرب، وسيرته مثال ناصع لمضاء العزيمة وخلوص النية وصدق العمل وحبّ الخير وإرادة الإصلاح".