كان يمكن في أكثر من مناسبة للرصاصتين اللتين أشعلتا جحيم الحرب العالمية الأولى ألا تنطلقا، كما لو أن العناية الإلهية تعطي الفرصة تلو الأخرى كي لا تشتعل الحرب.
مثل هذه المصادفات قد تجتمع أحيانا بشكل لافت ومحير وخاصة قبيل الكوارث الكبرى. قد يكون ذلك مجرد مصادفات عابرة، وربما هي تحذيرات وفرصة ضائعة.. ربما هي صمامات أمان لم تعمل ولم يحسن البشر التعامل معها.
يوم الثامن والعشرين من يونيو شهد حدثين كبيرين، الأول تمثل في الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى بكل أهوالها ومآسيها في حادثة اغتيال وريث العرش النمساوي المجري، الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند بسراييفو في عام 1914، والثاني توقيع سلام باريس الذي أنهى تلك الحرب الكبرى في عام 1919.
فرانز فرديناند، ابن شقيق الإمبراطور فرانز جوزيف، ما كان له أن يصل إلى مرتبة الأرشيدوق، وهو لقب نمساوي مجري يعني ولي العهد، لولا انتحار رودولف، ابن الإمبراطور، لأن والده لم يسمح له بالزواج من المرأة التي أحبها!
إضافة إلى ذلك، ما كان لوريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية أن يأتي إلى سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، لو لم يضم هذا الجزء السابق من الإمبراطورية العثمانية في عام 1908، وبالطبع ما كان لتظهر منظمة "ملادا بوسنا" الإرهابية التي أسسها متطرفون صرب، وتعلن عن نفسها في هجوم خلال زيارة فرديناند إلى سراييفو غير مجرى التاريخ.
التاريخ الإنساني في جانبه المظلم لا تستطيع "لو" أن تغير منه شيئا، إلا أن عملية الاغتيال تلك بالفعل كان يمكن أن تفشل في أكثر من مناسبة.
من ذلك أن 6 إرهابيين فيما كانوا متوجهين بالقطار من صربيا بالقطار، فقد أحدهم أسلحة ومادة سيانيد البوتاسيوم التي كانت بحوزة أفراد المجموعة للانتحار إذا ما تعرضوا للاعتقال.
سارت الأمور بطريقة غير مرضية للإرهابيين، وكادت خطتهم أن تفشل، حيث ألقيت حوالي الساعة العاشرة صباحا قنبلة محلية الصنع على السيارة التي تقل ولي العهد فرديناند وزوجته، إلا أنها لم تصل الهدف، وكان يتعين على الحراس قطع الزيارة إلا أنهم لم يفعلوا.
السيارة استمرت في السير بوتيرة بطيئة في شوارع سراييفو، وكان أن تخلف عن الوصل 4 إرهابيين آخرين، ولم يتبق إلا واحد فقط يدعى غافريلو برينسيب البالغ من العمر 19 عاما، ابن ساعي بريد يبلغ من العمر 19 عاما.
كان محبطا ومقتنعا بفشل المهمة بكاملها. ابتعد عن مسار الموكب وجلس في محل حلويات في شارع مجاور للجسر ليتناول شطيرة، إلا أن سائق وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية، بعد أن عبر الجسر فوق نهر ميلاكا، انحرف في الطريق الخطأ وانتهى به المطاف على بعد متر ونصف من الإرهابي المنشغل في أكل الفطيرة.
في تلك اللحظة، فيما كان السائق يدير الترس إلى الخلف للتراجع، نهض غافريلو برينسيب وأطلق النار مرتين من مسدسه.
قطعت الرصاصة الأولى شريان المعدة لزوجة ولي العهد صوفيا، وتوفيت على الفور تقريبا، فيما اخترقت الرصاصة الثانية رقبة الأرشيدوق وعلقت في العمود الفقري.
فرديناند استجمع قوته وقال كلماته الأخيرة، مخاطبا زوجته بقوله: "صوفي، صوفي، من أجل أطفالنا، لا تموتي".
كان يمكن حتى في هذه اللحظات إنقاذ الأرشيدوق عن طريق الضغط على الشريان، لكن ذلك لم يتسن بسبب الياقة الضيقة للغاية لزي الجنرال الذي كان يرتديه. فيما كان يحاول مرافقوه فك الأزرار، لقي فرديناند مصرعه بسبب النزيف الحاد.
الآن في ذلك المكان الذي أطلق فيه "برينتسب" النار التي تحولت على جحيم عالمي، وضعت بلاطة طبع عليها حذاؤه. كان هذا الشاب الذي يوصف بالخجول قصير القامة ويعاني من مرض السل، إلا أن الرصاصتين اللتين أطلقهما، خلطت خارطة أوروبا وزادت من تعقيد الأوضاع وتسببت في تشكلت تحالفات عسكرية وفتحت أبواب الجحيم.
رمت الإمبراطورية النمساوية المجرية بإنذار نهائي أمام صربيا، وذلك لاعتقادها بأن جهاز استخبارات الأركان العامة الصربية كان وراء عملية الاغتيال، فيما أعلنت روسيا القيصرية التعبئة للدفاع عن حليفتها صربيا، وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا وغزت بلجيكا المحايدة. بذلك بدأت الحرب العالمية الأولى التي خلفت وراءها 10 ملايين قتيل و30 مليون مشوه.