بغداد، عام 1962 نزار قبّاني يلقي قصائده في أمسية شعرية وأمامه في مقاعد الجمهور تجلس فتاة عراقية جميلة وقعت عينا الشاعر السوري عليها و”استرعت اهتمامه بحضورها الباهر”. كان لديها من العمر آنذاك 23 سنة، واسمها بلقيس الراوي.

“أدرك قباني آنذاك أن الفتاة الجالسة قبالته هي ضالته المنتظرة منذ سنوات”، على ما يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع في كتابه “زواج المبدعين ثراء المتخيل وفقر الواقع”.

ولم يتردد قبّاني في البحث عن هويتها ومكان إقامتها، ليكتشف أنها تسكن مع عائلتها في منطقة الأعظمية المطلة على نهر دجلة.

كان حينذاك في أوج تألّقه وشهرته، وقد مرّت عشر سنوات على وقوع الطلاق بينه وزوجته الأولى زهراء آقبيق (تزوّجا عام 1946).

وإذا صحّ أن قباني قال يوماً إن “الحب للشجعان الجبناء تزوّجهم أمهاتهم”، فلا بدّ أن هذا القول المنسوب إليه والمنتشر بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، ينطبق على ما أقدم عليه سريعاً بعد رؤية بلقيس في الأمسية الشعرية. إذ لم يتوان، بشجاعة ملحوظة عن التقدم إلى خطبتها رغم أنه لا يعرفها بعد سوى من أول نظرة.

“تفاجأ برفض أبيها الحازم لهذه الخطوبة بناء على ما يعرفه عن الشاعر الأشهر في دنيا العرب من كونه لا يكفّ عن اصطياد النساء وإغوائهن واللعب على مشاعرهن”، يقول بزيع.

ويخصص في كتابه فصلاً بعنوان “بلقيس الراوي ونزار قباني: قصة حب شائكة أوصلها الموت إلى تخوم الأسطورة”، ليخبر فصولاً من العلاقة الغريبة التي نشأت بين الشاعر الدمشقي والدبلوماسية العراقية الجميلة، بعد عودة الشاعر خائباً من منزلها، وسفره إلى إسبانيا ضمن البعثة الدبلوماسية السورية.

وطوال سبع سنوات، تبادل نزار وبلقيس رسائل الشغف والحب في غفلة عن والدها. وبعدها زار العراق مرة ثانية، ليشارك في مهرجان “المربد” الشعري عام 1969، وراح يلقي على جمهوره فصولاً من قصته المؤثرة مع بلقيس، ومن بين أبياتها:

“كان عندي هنا أميرة حبّ.. ثم ضاعت أميرتي الحسناء

أين وجه في الأعظمية حلوٌ.. لو رأته تغار منه السماء”.

ولأن قصة الشاعر مع بلقيس صارت معروفة لمتابعيه، يكمل بزيع رواية الأحداث التي ازدادت تشويقاً: “تناهت إلى مسمع الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر، أصداء تلك العلاقة المجهضة التي جمعت بين العاشق الدمشقي ومعشوقته العراقية، مع كل ما تحمله من دلالات وأبعاد قومية وسياسية بالغة. فأوفد إلى أبيها كلا من وزير الشباب العراقي شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية شاذل طاقة، وكلاهما شاعران مرموقان، ليخطباها باسمه الشخصي لنزار قباني”.

هكذا تدخل رئيس العراق شخصياً لجمع حبيبين، و”لم يكن أمام الأب جميل الراوي، مؤسس الحركة الكشفية في العراق، سوى الموافقة على اقتراح الموفدين والنزول عند رغبة الرئيس وتمت مراسم الزفاف دون إبطاء”.

انتقل الزوجان ليعيشا في بيروت، حيث عملت بلقيس كدبلوماسية في السفارة العراقية. يصف بزيع زواجهما بـ”الناجح”، بعد أن “استطاعت الزوجة بذكائها وجمالها أن تنجح في امتحان الغيرة المدمّر”.

ولو أنها “لم تكن بمنأى عن لسعة الغيرة التي تطال النساء المرتبطات برجال مشاهير، كما هي حال زوجها نزار، لكنها نجحت في كبح جماح تلك الغيرة وإبقائها تحت السيطرة”، بحسب بزيع.

ولخّص قباني قدرة زوجته على تحمّل كل ذلك، في قصيدته المشهورة التي غناها كاظم الساهر “أشهد أن لا امرأة إلا أنت”، التي كتبها لبلقيس في عيد زواجهما العاشر، وفيها يقول “أشهد أن لا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنت/ واحتملت حماقتي عشرة أعوام مثلما احتملت/ واصطبرت على جنوني مثلما صبرتِ/ وقلّمت أظافري ورتّبت دفاتري/ وأدخلتني روضة الأطفال”.

في هذا السياق ينقل كريم مروة في كتابه “شخصيات وتواريخ في السياسية والفكر والأدب والفن”، عن عبد الرحمن محمد الوصيفي في كتابه المكرس لنزار قباني قوله، إن “فشل نزار في زواجه الأول إنما يعود إلى أن زوجته الأولى لم تستطع أن تتحمل طفولته وأن تتعوّد عليها. في حين أن بلقيس الراوي، زوجته الثانية وأم ولديه، كانت تتعامل معه كطفل وتعتبره، وفق ما قال هو، الطفل الثالث في البيت”.

يتابع الكاتب: “لذلك كانت بلقيس بالنسبة إلى نزار أعظم امرأة في العالم، وكانت وفاتها في تدمير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 كارثة حقيقية بالنسبة إليه”.

وهذا التفجير، الذي نفذه انتحاري، وتبناه حزب الدعوة العراقي المعارض لحكم صدام حسين، وبدأ بتأثير من الثورة الإسلامية في إيران باستخدام العنف المسلح ضد الحكومة العراقية، يسمّيه بزيع “ضربة القدر القاصمة” التي شاءت لبلقيس أن “تقضي نحبها بشكل مأساوي تحت ركام الانفجار المروّع الذي ضرب السفارة العراقية في بيروت”.

اللافت كما يقول بزيع أن بلقيس “لم تكف عن مفاجأة شاعرها المكلوم في الموت كما في الحياة”، إذ أبلغه ياسر عرفات آنذاك، أن زوجته الراحلة “تلقت تدريبات مكثفة على القتال، واضعة نفسها مع بعض رفيقاتها العراقيات تحت تصرّف الثورة الفلسطينية”.

وقد اعتصم قباني بصخرة الشعر لتقيه من التصدّع والقنوط، على ما يقول بزيع، تماماً كما فعل إثر الرحيل المفاجئ لابنه توفيق (من زواجه الأول) في بداية السبعينيات، “فأوكل التعبير عن كل ما تجيش به نفسه من سخط على القتلة المجرمين، وحزن على زوجته المغدورة إلى قصيدة (بلقيس) ذات النفس الملحمي والنبرة الشبيهة بالمزامير”.

وهي القصيدة التي يصف فيها الشاعر حبيبته الراحلة: “كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل/ وكانت أطوال النخلات في أرض العراق”، ويقول فيه أيضاً:

“هل تعرفون حبيبتي بلقيس؟

كانت مزيجاً رائعاً من القطيفة والرخام

كان البنفسج في عينيها ينام ولا ينام

بلقيس يا زوجتي وحبيبتي وقصيدتي وضياء عيني

كل غمامة تبكي عليك

فمن يا ترى يبكي عليّ؟”.

وفي كتابه “آخر كلمات نزار- ذكريات مع شاعر العصر”، يكتب عرفان نظام الدين الذي عرف نزار قباني عن قرب في أواخر ايامه، أن الشاعر السوري كان “يشتاق إليها (بلقيس) كثيراً ويتحدث عنها بحرقة ويوزع صورها في أرجاء بيته وعلى مكتبه وأماكن جلوسه المفضلة”.

ومن يمعن النظر في عينيّ نزار “كان يرى بُقع الدم الجمري تغمر مقلتيه التي تحولت مع الأيام إلى قصائد أبكتنا وأغرقتنا في ينابيع الحزن”، على حد تعبير نظام الدين.