"كنت أنتظر أن يعود صدام للسلطة حتى يأخذني معه لأكون ساعده الأيمن".. ربما تمثل هذه الجملة التي بدت عابرة في سياق اللقاء مع علاء ناموق، مفتاحاً أولي لقراءة هذا الفيلم الجدلي، الماكر.
"إخفاء صدام حسين"، هو وثائقي عراقي نرويجي، من إخراج الكردي هلكوت مصطفى، الذي لجأ إلى الشمال قبل سنواتٍ طويلة هرباً من جحيم (العراك) في بلده الأول، وهو ضربة البداية في مسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة (30 نوفمبر - 9 ديسمبر الجاري)، والتي تعرض هذا العام ما يزيد عن 15 فيلماً، بعضها يأتي كعروض عالمية أولى وبعضها ضمن العروض الأولى في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
هلكوت مصطفى، هو اكتشاف خليجي بالأساس، فقبل أكثر من 10 سنوات قدّم فيلمه الأول "قلب أحمر" ضمن فعاليات مهرجان الخليج السينمائي، ومن بعده مهرجان دبي، وها هو يعود مرة أخرى بمنجزه الوثائقي الجدلي عقب 12 عاماً من التحضيرات، مثلما صرح في لقائه عقب العرض الأول للفيلم بالمسابقة الرسمية.
إعادة بناء
يرصد مصطفى في فيلمه عام (الهروب)، أو بمعنى أدق 235 يوم من رحلة هرب الرئيس العراقي الأسبق والأشهر صدام حسين عقب اختفائه بعد دخول الجيش الأميركي إلى بغداد عام 2006، حيث يبدأ بمادة أرشيفية عن الحرب الأميركية على العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، ثم مقاومة الجيش العراقي، وأخيراً السقوط وهرب الرئيس، وبداية عملية البحث عنه بتكليف 150 ألف جندي أميركي في أرض ما بين النهرين بالعثور عليه، هو وأركان نظامه فيما سمي وقتها بلعبة أوراق الكوتشينة، وهي الكروت التي كانت تحمل صور المطلوبين من السلطة العراقية والبعثيين بداية من كبيرهم (A) صدام، مروراً بأولاده وقواده ومساعديه.
ثم يظهر الفلاح العراقي علاء ناموق، الذي تكفل بأحد أشهر عمليات الهروب والإخفاء في تاريخ الحروب الحديثة وهي إخفاء الرجل الذي تسبب نظامه في مقتل الملايين، وسقوط واحدة من أغنى وأقوى دول المنطقة في قبضة الاحتلال والتمزق الطائفي والفشل الاقتصادي.
يجلس علاء أمام الكاميرا متربعاً على الأرض ممسكاً بمسبحه، ومرتدياً الزي التقليدي ومشعلاً سيجارة، ويبدأ بهدوء شديد في استعادة ما حدث أمام الكاميرا.
هنا يقوم المخرج بما يعرض في النوع الوثائقي، بإعادة البناء (RECONSTRUCTION) أي إعادة تمثيل المشاهد المحكية على لسان علاء من خلال مجموعة ممثلين يقدمون أدوار الشخصيات الحقيقية بما فيهم علاء نفسه قبل 17 عاماً تقريباً.
وإعادة البناء، هي واحدة من أشكال السرد في الأبنية الفيلمية الوثائقية، والتي عادة ما تستخدم من أجل تعويض غياب المادة البصرية للمرويات والوقائع التي تحكيها الشخصيات أمام الكاميرا في شهاداتها، وهي أسلوب متجذر في صناعة الوثائقيات يتاخم الشكل الروائي، لكنه لا يجتاز الحدود الفاصلة بين النوعين، حيث تظل المشاهد المعاد بنائها تحتفظ بجانبها غير الإيهامي، أي تحافظ على أن يظل المتفرج طوال الوقت يدرك أن ما يراه أمامه هو مجرد محاكاة بصرية ليس أكثر، وليس كما الشكل الروائي يلتزم بالإيهام الكامل حد الاستغراق والتورط على مستوى الوعي واللاوعي.
يحافظ المخرجون في إعادة البناء على كسر الإيهام المستمر بالارتداد إلى حاضر عبر صوت الشخصية التي تحكي أو حضورها أمام الكاميرا، وهو الأسلوب الذي اتبعه هلكوت مصطفى في سردية فيلمه على مستوى الشكل، وبدا صوت علاء ناموق كراوٍ في جلسته الأرضية أقرب لفناني السير الشعبية والحكايات التراثية القديمة، خصوصاً أن تفاصيل عملية الإخفاء ورحلة الرئيس الهارب فيها من الملحمية المثيرة -رغم كونه في عداد مجرمي الحرب- ما تجعل روايتها بهذه الشكل الكلاسيكي ما يعوض غياب الأرشيف أو الوثائق المصورة عن أي من تفاصيلها.
كذلك لا يمكن إغفال عنصر هام جداً في مسألة إعادة البناء، وهي التأكيد على صحة المعلومات التي يبوح بها علاء، أو يرويها كأنها حدثت بالأمس فقط، وليس قبل عقد ونصف، ومن هنا يمكن رصد ملامح المكر السردي الذي سبق وأشرنا إليه فيما يخص تلقي الفيلم.
المقصود بالتأكيد هنا، هو أن أحداً غير علاء يملك دليلاً على ما يروي أنه حدث بينه وبين صدام طوال عام الهروب، فالتفاصيل الخاصة بالأحاديث التي بينهما والعلاقة الإنسانية التي توطدت عبر الوقت بين شخصيتين من عالمين منفصلين تماماً، ثم ما يحكيه علاء عن مشاعره وطريقته في التعامل مع صدام وأسلوب صدام نفسه في التعامل معه، وهو الذي كان يقيم الدنيا، ويطويها في نصف المنطقة العربية تقريباً بطرف سيجارة الشهير، كل هذه التفاصيل ليس هناك دليل قاطع عليها سوى رواية علاء نفسه، وصحيح أن المخرج أقر بأنه استبعد معلومات كثيرة لم تكن موثقة أو عليها أكثر من دليل، ولكن يظل هناك كامل بدن الحكاية الحميمية ما بين الفلاح والرئيس، والتي لم يعد الطرف الأهم فيها حاضراً ليؤكد أو ينفي متنها أو خفاياها.
طيب ما الذي يفيد فيه أسلوب إعادة البناء هنا غير تجسيد بعض فصول الحكاية، يفيد بأنه يبدو كجزم أو عنصر حسم نفسي وشعوري بالنسبة للاوعي المتلقي، أي أن ما يسمعه من علاء، ثم يراه متجسداً، أو في محاكاة واضحة المعالم أمامه تجعل اللاوعي يتقبل ما يسمعه على اعتبار أنه موثق ومثبوت وحادث بالفعل، أي كأن الحكاية تروى مرتين بأسلوبين مختلفين (صوتي وبصري) بما يزيد منطقيتها وتقبل الذهن لكونها وقائع حقيقية لا تسمح بنفاذ الشك إلى قاربها الذي يطفو فوق نهر الذكريات.
رحلة البطل
ليس المقصود بالبطولة هنا، البطولة العسكرية أو السياسية، بل البطولة الدرامية، ونعني بها سلطة القرار الذي تتخذه الشخصيات في لحظات معينة من أزمتها بما يتسبب في دفع الصراع إلى الأمام والوصول إلى ذروة حاسمة أو خاتمة قوية.
لا تأتي قوة فيلم "إخفاء صدام حسين" من انضباط الإيقاع العام والقدرة على الموازنة بين ما هو محكي وما هو مصور، ولا تنبع فقط من التوظيف الدقيق والحساس جداً للأرشيف الذي يفتح باب التساؤل حول كيفية العثور عليه والحصول على إذن باستخدامه، خاصة باللقطات المصورة لممارسات الاحتلال الأميركي في أثناء البحث عن صدام ومداهمة البيوت، كذلك لقطات القصف العنيف للآليات الأميركية من قبل المقاومة.
كل هذا يمكن عقب 12 عاماً من البحث والجهد التقني، يمكن أن يعتبر محصلة معقولة وجيدة، ولكن الأصل فيما يمكن اعتباره مصدر الطاقة الحقيقي والمشع في الفيلم هو الحكاية نفسها، ليس في جانبها السياسي أو المعلوماتي المثير، ولكن في جانبها الدرامي المميز، والذي كتبه القدر بنفسه ولونه بملحمية نفسية وشعرية ملفتة.
لو جردنا الشخصيات من أسمائها، وأبقينا على الصفات فقط، لأصبح لدينا رواية تفوح بعمق إنساني وفكري يستحق التأمل، فلاح فقير، أمي، متواضع الإمكانيات النفسية والعقلية، العالم بالنسبة إليه بقعة جغرافية لا تزيد عن حدود قريته وتخومها الجبلية والنهرية، يقرر أن يخفي رئيس دولة هارب من قوى عظمى، بعد أن سقط عن عرشه، وتبخرت دكتاتوريته، وصار مجموعة من بواقي الكيانات التي كونها ذات يوم، بقايا أب وبقايا رئيس وبقايا حاكم متنفذ، وعبر ما يقرب من العام نتابع تلك العلاقة التي كانت قبل أيام قليلة من بدايتها حكاية مستحيلة وغير قابلة للتصديق عبر أي منطق أي إيهام درامي أو حتى أسطوري.
بل أن ثمة لحظات شعرية شديدة العذوبة والغرابة بين فصول هذه الرواية القدرية، مثل المشهد الخاص بتحميم الفلاح للرئيس وتنظيف جسده، كأنه يغسله من أدران السلطة وقذارات الفساد والدكتاتورية، ثم تبادل الأدوار وجلوس الفلاح بين يدي الرئيس لكي يحممه ويدعك جسده بالصابون، كأنه أب يعتني بابنه الشاب بعد أن أدرك بأن حياته كلها مرهونة بقدرة هذا الفلاح على حمايته وإطعامه وإخفائه، في خندق أعده أسفل أحواض الزهور التي بدت وكأنها نابتة فوق قبر مستقبلي، بل إننا في لحظة ما نتساءل ماذا لو أن هذا الرئيس بما نعرفه عن خلفيته الدموية وسلطويته الجبارة قرر أن يتعامل مع الشعب كله كما يتعامل مع هذا الفلاح مدركاً لطبيعة العلاقة الجدلية والمتداخلة بينهم؟ وهنا تحديداً تكمن قوة الشعر، لا في جمالية الصورة المرسومة، ولكن فيما تفوح به من روائح التأمل واستحضار الأسئلة الغائبة أو المسكوت عنها.
مراوغة الانحياز
ربما أكثر ما يبدو محيراً في الفيلم، هو عدم اتخاذ موقف صريح تجاه الشخصية نفسها، ونعني به الرئيس الهارب، فظاهرياً يبدو الفيلم متكلفاً في حياده، تماماً مثلما حاول المخرج أن يجيب بدبلوماسية عن سبب عدم الانحياز مع أو ضد، ولكن المادة المعروضة سواء كانت محاكاة أو أرشيفاً تبدو منحازة في جوهرها إلى كل ما هو ضد الفساد السلطوي والدكتاتورية والفشل السياسي.
إن سبب هذا التشوش في التلقي، هو توحد المتلقي مع شخصية علاء ناموق، بحكم سيطرة المخرج على أدواته وقدرته على ضبط الحكي بميزان دقيق، لكن في حقيقة الأمر، فإن ما قدمه الفيلم هو نموذج لمواطن صريح يعلن أنه لم يكن يعلم الكثير عن ممارسات رئيسه وكيفية إدارته للبلاد، وهو صادق فيما يقول بدليل أنه مد إليه يد المساعدة بكل تبجيل، حتى إنه لا يزال بعد سنوات من إعدامه لا ينطق اسمه مجرداً دون لقب منصبه.
في حين أن المخرج لم يخفِ عليه وعلينا كل ما يمكن أن يعرضه من مادة ومعلومات تتصل وجدانياً مع كل ما نعرفه عن الرجل ودولته وحروبه، والتي لم ينكرها لا الرئيس نفسه ولا حتى الفلاح الذي قال بأنه لا يعلم ولم يقل لا أصدق!، وبالتالي فالموقف الماكر درامي للفيلم ينبع من كونه لم يقدم الانحياز كأسلوب، بل كنتيجة، بمعنى أنه يدفع المتلقي للتفكير والبحث والتأمل ومراجعة التاريخ قبل الانحياز، في حين أن ما يسهل رصده هو المحصلة الفاضحة لأي حكم دكتاتوري بصلاحيات مطلقة وعقلية تآمرية وزي عسكري، وهو ما أدى بدولة متينة حضارياً، بتاريخ ضارب في عمق الوجود، وثراء باذخ حد التخمة أن تلفظ أنفاسها في أقل من عقدين فقط من الزمن بسبب هذا الرجل، الرئيس الذي لم يجد سوى فلاح نكرة لم يكن في أدنى منزلة من حساباته لكي يصبح سبباً في بقائه حياً لـ235 يوماً، قبل أن يُقْبَض عليه وإعدامه علناً.
"إخفاء صدام حسين"، هو وثائقي عراقي نرويجي، من إخراج الكردي هلكوت مصطفى، الذي لجأ إلى الشمال قبل سنواتٍ طويلة هرباً من جحيم (العراك) في بلده الأول، وهو ضربة البداية في مسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة (30 نوفمبر - 9 ديسمبر الجاري)، والتي تعرض هذا العام ما يزيد عن 15 فيلماً، بعضها يأتي كعروض عالمية أولى وبعضها ضمن العروض الأولى في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
هلكوت مصطفى، هو اكتشاف خليجي بالأساس، فقبل أكثر من 10 سنوات قدّم فيلمه الأول "قلب أحمر" ضمن فعاليات مهرجان الخليج السينمائي، ومن بعده مهرجان دبي، وها هو يعود مرة أخرى بمنجزه الوثائقي الجدلي عقب 12 عاماً من التحضيرات، مثلما صرح في لقائه عقب العرض الأول للفيلم بالمسابقة الرسمية.
إعادة بناء
يرصد مصطفى في فيلمه عام (الهروب)، أو بمعنى أدق 235 يوم من رحلة هرب الرئيس العراقي الأسبق والأشهر صدام حسين عقب اختفائه بعد دخول الجيش الأميركي إلى بغداد عام 2006، حيث يبدأ بمادة أرشيفية عن الحرب الأميركية على العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، ثم مقاومة الجيش العراقي، وأخيراً السقوط وهرب الرئيس، وبداية عملية البحث عنه بتكليف 150 ألف جندي أميركي في أرض ما بين النهرين بالعثور عليه، هو وأركان نظامه فيما سمي وقتها بلعبة أوراق الكوتشينة، وهي الكروت التي كانت تحمل صور المطلوبين من السلطة العراقية والبعثيين بداية من كبيرهم (A) صدام، مروراً بأولاده وقواده ومساعديه.
ثم يظهر الفلاح العراقي علاء ناموق، الذي تكفل بأحد أشهر عمليات الهروب والإخفاء في تاريخ الحروب الحديثة وهي إخفاء الرجل الذي تسبب نظامه في مقتل الملايين، وسقوط واحدة من أغنى وأقوى دول المنطقة في قبضة الاحتلال والتمزق الطائفي والفشل الاقتصادي.
يجلس علاء أمام الكاميرا متربعاً على الأرض ممسكاً بمسبحه، ومرتدياً الزي التقليدي ومشعلاً سيجارة، ويبدأ بهدوء شديد في استعادة ما حدث أمام الكاميرا.
هنا يقوم المخرج بما يعرض في النوع الوثائقي، بإعادة البناء (RECONSTRUCTION) أي إعادة تمثيل المشاهد المحكية على لسان علاء من خلال مجموعة ممثلين يقدمون أدوار الشخصيات الحقيقية بما فيهم علاء نفسه قبل 17 عاماً تقريباً.
وإعادة البناء، هي واحدة من أشكال السرد في الأبنية الفيلمية الوثائقية، والتي عادة ما تستخدم من أجل تعويض غياب المادة البصرية للمرويات والوقائع التي تحكيها الشخصيات أمام الكاميرا في شهاداتها، وهي أسلوب متجذر في صناعة الوثائقيات يتاخم الشكل الروائي، لكنه لا يجتاز الحدود الفاصلة بين النوعين، حيث تظل المشاهد المعاد بنائها تحتفظ بجانبها غير الإيهامي، أي تحافظ على أن يظل المتفرج طوال الوقت يدرك أن ما يراه أمامه هو مجرد محاكاة بصرية ليس أكثر، وليس كما الشكل الروائي يلتزم بالإيهام الكامل حد الاستغراق والتورط على مستوى الوعي واللاوعي.
يحافظ المخرجون في إعادة البناء على كسر الإيهام المستمر بالارتداد إلى حاضر عبر صوت الشخصية التي تحكي أو حضورها أمام الكاميرا، وهو الأسلوب الذي اتبعه هلكوت مصطفى في سردية فيلمه على مستوى الشكل، وبدا صوت علاء ناموق كراوٍ في جلسته الأرضية أقرب لفناني السير الشعبية والحكايات التراثية القديمة، خصوصاً أن تفاصيل عملية الإخفاء ورحلة الرئيس الهارب فيها من الملحمية المثيرة -رغم كونه في عداد مجرمي الحرب- ما تجعل روايتها بهذه الشكل الكلاسيكي ما يعوض غياب الأرشيف أو الوثائق المصورة عن أي من تفاصيلها.
كذلك لا يمكن إغفال عنصر هام جداً في مسألة إعادة البناء، وهي التأكيد على صحة المعلومات التي يبوح بها علاء، أو يرويها كأنها حدثت بالأمس فقط، وليس قبل عقد ونصف، ومن هنا يمكن رصد ملامح المكر السردي الذي سبق وأشرنا إليه فيما يخص تلقي الفيلم.
المقصود بالتأكيد هنا، هو أن أحداً غير علاء يملك دليلاً على ما يروي أنه حدث بينه وبين صدام طوال عام الهروب، فالتفاصيل الخاصة بالأحاديث التي بينهما والعلاقة الإنسانية التي توطدت عبر الوقت بين شخصيتين من عالمين منفصلين تماماً، ثم ما يحكيه علاء عن مشاعره وطريقته في التعامل مع صدام وأسلوب صدام نفسه في التعامل معه، وهو الذي كان يقيم الدنيا، ويطويها في نصف المنطقة العربية تقريباً بطرف سيجارة الشهير، كل هذه التفاصيل ليس هناك دليل قاطع عليها سوى رواية علاء نفسه، وصحيح أن المخرج أقر بأنه استبعد معلومات كثيرة لم تكن موثقة أو عليها أكثر من دليل، ولكن يظل هناك كامل بدن الحكاية الحميمية ما بين الفلاح والرئيس، والتي لم يعد الطرف الأهم فيها حاضراً ليؤكد أو ينفي متنها أو خفاياها.
طيب ما الذي يفيد فيه أسلوب إعادة البناء هنا غير تجسيد بعض فصول الحكاية، يفيد بأنه يبدو كجزم أو عنصر حسم نفسي وشعوري بالنسبة للاوعي المتلقي، أي أن ما يسمعه من علاء، ثم يراه متجسداً، أو في محاكاة واضحة المعالم أمامه تجعل اللاوعي يتقبل ما يسمعه على اعتبار أنه موثق ومثبوت وحادث بالفعل، أي كأن الحكاية تروى مرتين بأسلوبين مختلفين (صوتي وبصري) بما يزيد منطقيتها وتقبل الذهن لكونها وقائع حقيقية لا تسمح بنفاذ الشك إلى قاربها الذي يطفو فوق نهر الذكريات.
رحلة البطل
ليس المقصود بالبطولة هنا، البطولة العسكرية أو السياسية، بل البطولة الدرامية، ونعني بها سلطة القرار الذي تتخذه الشخصيات في لحظات معينة من أزمتها بما يتسبب في دفع الصراع إلى الأمام والوصول إلى ذروة حاسمة أو خاتمة قوية.
لا تأتي قوة فيلم "إخفاء صدام حسين" من انضباط الإيقاع العام والقدرة على الموازنة بين ما هو محكي وما هو مصور، ولا تنبع فقط من التوظيف الدقيق والحساس جداً للأرشيف الذي يفتح باب التساؤل حول كيفية العثور عليه والحصول على إذن باستخدامه، خاصة باللقطات المصورة لممارسات الاحتلال الأميركي في أثناء البحث عن صدام ومداهمة البيوت، كذلك لقطات القصف العنيف للآليات الأميركية من قبل المقاومة.
كل هذا يمكن عقب 12 عاماً من البحث والجهد التقني، يمكن أن يعتبر محصلة معقولة وجيدة، ولكن الأصل فيما يمكن اعتباره مصدر الطاقة الحقيقي والمشع في الفيلم هو الحكاية نفسها، ليس في جانبها السياسي أو المعلوماتي المثير، ولكن في جانبها الدرامي المميز، والذي كتبه القدر بنفسه ولونه بملحمية نفسية وشعرية ملفتة.
لو جردنا الشخصيات من أسمائها، وأبقينا على الصفات فقط، لأصبح لدينا رواية تفوح بعمق إنساني وفكري يستحق التأمل، فلاح فقير، أمي، متواضع الإمكانيات النفسية والعقلية، العالم بالنسبة إليه بقعة جغرافية لا تزيد عن حدود قريته وتخومها الجبلية والنهرية، يقرر أن يخفي رئيس دولة هارب من قوى عظمى، بعد أن سقط عن عرشه، وتبخرت دكتاتوريته، وصار مجموعة من بواقي الكيانات التي كونها ذات يوم، بقايا أب وبقايا رئيس وبقايا حاكم متنفذ، وعبر ما يقرب من العام نتابع تلك العلاقة التي كانت قبل أيام قليلة من بدايتها حكاية مستحيلة وغير قابلة للتصديق عبر أي منطق أي إيهام درامي أو حتى أسطوري.
بل أن ثمة لحظات شعرية شديدة العذوبة والغرابة بين فصول هذه الرواية القدرية، مثل المشهد الخاص بتحميم الفلاح للرئيس وتنظيف جسده، كأنه يغسله من أدران السلطة وقذارات الفساد والدكتاتورية، ثم تبادل الأدوار وجلوس الفلاح بين يدي الرئيس لكي يحممه ويدعك جسده بالصابون، كأنه أب يعتني بابنه الشاب بعد أن أدرك بأن حياته كلها مرهونة بقدرة هذا الفلاح على حمايته وإطعامه وإخفائه، في خندق أعده أسفل أحواض الزهور التي بدت وكأنها نابتة فوق قبر مستقبلي، بل إننا في لحظة ما نتساءل ماذا لو أن هذا الرئيس بما نعرفه عن خلفيته الدموية وسلطويته الجبارة قرر أن يتعامل مع الشعب كله كما يتعامل مع هذا الفلاح مدركاً لطبيعة العلاقة الجدلية والمتداخلة بينهم؟ وهنا تحديداً تكمن قوة الشعر، لا في جمالية الصورة المرسومة، ولكن فيما تفوح به من روائح التأمل واستحضار الأسئلة الغائبة أو المسكوت عنها.
مراوغة الانحياز
ربما أكثر ما يبدو محيراً في الفيلم، هو عدم اتخاذ موقف صريح تجاه الشخصية نفسها، ونعني به الرئيس الهارب، فظاهرياً يبدو الفيلم متكلفاً في حياده، تماماً مثلما حاول المخرج أن يجيب بدبلوماسية عن سبب عدم الانحياز مع أو ضد، ولكن المادة المعروضة سواء كانت محاكاة أو أرشيفاً تبدو منحازة في جوهرها إلى كل ما هو ضد الفساد السلطوي والدكتاتورية والفشل السياسي.
إن سبب هذا التشوش في التلقي، هو توحد المتلقي مع شخصية علاء ناموق، بحكم سيطرة المخرج على أدواته وقدرته على ضبط الحكي بميزان دقيق، لكن في حقيقة الأمر، فإن ما قدمه الفيلم هو نموذج لمواطن صريح يعلن أنه لم يكن يعلم الكثير عن ممارسات رئيسه وكيفية إدارته للبلاد، وهو صادق فيما يقول بدليل أنه مد إليه يد المساعدة بكل تبجيل، حتى إنه لا يزال بعد سنوات من إعدامه لا ينطق اسمه مجرداً دون لقب منصبه.
في حين أن المخرج لم يخفِ عليه وعلينا كل ما يمكن أن يعرضه من مادة ومعلومات تتصل وجدانياً مع كل ما نعرفه عن الرجل ودولته وحروبه، والتي لم ينكرها لا الرئيس نفسه ولا حتى الفلاح الذي قال بأنه لا يعلم ولم يقل لا أصدق!، وبالتالي فالموقف الماكر درامي للفيلم ينبع من كونه لم يقدم الانحياز كأسلوب، بل كنتيجة، بمعنى أنه يدفع المتلقي للتفكير والبحث والتأمل ومراجعة التاريخ قبل الانحياز، في حين أن ما يسهل رصده هو المحصلة الفاضحة لأي حكم دكتاتوري بصلاحيات مطلقة وعقلية تآمرية وزي عسكري، وهو ما أدى بدولة متينة حضارياً، بتاريخ ضارب في عمق الوجود، وثراء باذخ حد التخمة أن تلفظ أنفاسها في أقل من عقدين فقط من الزمن بسبب هذا الرجل، الرئيس الذي لم يجد سوى فلاح نكرة لم يكن في أدنى منزلة من حساباته لكي يصبح سبباً في بقائه حياً لـ235 يوماً، قبل أن يُقْبَض عليه وإعدامه علناً.