من يستمع إلى ألحان كوكب حمزة (مواليد محافظة بابل 1944)، الذي رحل عن دنيانا أمس في منفاه الدانماركي، يتلمَّس خصوصية النغم العراقي، والوهج الذي استطاع هذا الملحن الفذّ نقله عبر مقامات "صُنِعَ بسحر" ليترك بصمته الخاصة التي غالبت الزمن، وظلَّت طازجة، تاركاً لنا أرشيفاً من أجمل الأغنيات نذكر منها "يا طيور الطايرة، هوى الناس، يا نجمة، القنطرة بعيدة، صار العمر محطات،...".
حمزة الذي أسس لأفق جديد في الأغنية العراقية، خاصةً في سبعينيات القرن الماضي، امتلك القدرة على جعل اللحن قضية بحد ذاته، إذ ابتكر في روح النغم وجدَّد في الإيقاع وانتشل العاطفة والشجن من مكانهما الضيق إلى علياء الروح، مُحققاً استثناءه في رحم بيئته، فكان كل ما اشتغل عليه رقيقاً وفريداً ومندغماً بنسغ العراق.
ويُحسَب له ذكاؤه في التعاطي مع مجموعة كبيرة من الأصوات، إذ كان يُداور جمله اللحنية لتناسبها وتستخلص أجمل ما فيها، فعلى سبيل المثال قدم حمزة صوت الفرات الخضيب "حسين نعمة" عبر أغنية فريدة في وقتها هي "يا نجمة"، وأيضاً المطرب "ستار جبار" الذي فارق الحياة سريعاً.
وأيضاً هناك سعدون جابر الذي لولا ألحان كوكب التي تناسب صوته محدود الإمكانات لما وصل إلى ربع ما وصل إليه من حضور عراقي وعربي، وكذلك المطرب رياض أحمد الذي بدأ مشواره بأداء اللحن المركّب المسارات النغمية "صار العمر محطات" ليصبح علامة مسجلة على متانة النسيج اللحني عند كوكب وفرادته.
عشرات الأغنيات قدَّمها الملحن العراقي كان لكل منها مزاجها وتناغمها وأصالتها، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا المنافسة الإبداعية الشريفة التي جمعته في بداياته مع المُلَحِّنَيْن كمال وطالب القرة غولي، بعد أن كان ثلاثتهم معلمين بالناصرية والبصرة، ليأتي بعدهم "محسن فرحان" و"جعفر الخفاف" ليتابعوا المسيرة.
لكن كانت محبة الحرية التي انتهجها حمزة في ألحانه وفكره سبباً في إقصائه عن رحم البيئة التي ساندته في تنويط الحب والألم والجَمَال، إذ قتلته السياسة مرتين: الأولى حين أقصته بكل قسوة عن عراقه أيام نظام صدام حسين، والثانية حين وقف معارضاً لسلطة ما بعد 2003 في بلاده ليُنفى مرة أخرى.
وعن ذلك قال في أحد حواراته: "ابتعادي عن هذا الرحم يؤذيني ويهزني بعنف، وهو ما أراه أحياناً يضعف جملتي الموسيقية ويشوّه روحي اللحنية. نعم الوجع الدائم لا يخلق فناً أو إبداعاً كبيراً، لذا أكثر المبدعين العراقيين في حال جدب وفي حال عدم قدرة على التعبير، فغربتهم طالت وامتدّ الوجع طويلاً، ومثل هذا الحصار الروحي أشك أنه ينتج فناً عميقاً".
وربما غربة الملحن العراقي هي ما جعلته يعيش في عزلة فنية، فتمر سنوات من دون أن يعزف على العود، ورغم تصاعد شغفه لإنتاج أغنيات جديدة إلا أن المناخات الإنتاجية والأمزجة الهدَّامة لكل ما هو جميل، لم يتيحا له زيادة رصيده الجَمالي، مع أنه كان يمتلك أكثر من أربع أغنيات جاهزة وسجَّل ألحانها بعوده، لكن للأسف لم تبصر النور في ظل الإسفاف الفني المنتشر بكثرة.
ليبقى السر الكامن في استمرارية أغنيات السبعينيات لكوكب حمزة ومجايليه أنها كانت بمثابة قضية للشعراء والملحنين والمطربين، قضية لها علاقة بالوطن والناس، ومن يستمع لها يشعر بذلك، وعلى اختلاف الأزمنة وتغير الأمزجة، إلا أن تلك الأغاني تبقى طازجة؛ لأنها مشغولة بحب والتزام كبيرين وإبداع متجدد.
{{ article.visit_count }}
حمزة الذي أسس لأفق جديد في الأغنية العراقية، خاصةً في سبعينيات القرن الماضي، امتلك القدرة على جعل اللحن قضية بحد ذاته، إذ ابتكر في روح النغم وجدَّد في الإيقاع وانتشل العاطفة والشجن من مكانهما الضيق إلى علياء الروح، مُحققاً استثناءه في رحم بيئته، فكان كل ما اشتغل عليه رقيقاً وفريداً ومندغماً بنسغ العراق.
ويُحسَب له ذكاؤه في التعاطي مع مجموعة كبيرة من الأصوات، إذ كان يُداور جمله اللحنية لتناسبها وتستخلص أجمل ما فيها، فعلى سبيل المثال قدم حمزة صوت الفرات الخضيب "حسين نعمة" عبر أغنية فريدة في وقتها هي "يا نجمة"، وأيضاً المطرب "ستار جبار" الذي فارق الحياة سريعاً.
وأيضاً هناك سعدون جابر الذي لولا ألحان كوكب التي تناسب صوته محدود الإمكانات لما وصل إلى ربع ما وصل إليه من حضور عراقي وعربي، وكذلك المطرب رياض أحمد الذي بدأ مشواره بأداء اللحن المركّب المسارات النغمية "صار العمر محطات" ليصبح علامة مسجلة على متانة النسيج اللحني عند كوكب وفرادته.
عشرات الأغنيات قدَّمها الملحن العراقي كان لكل منها مزاجها وتناغمها وأصالتها، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا المنافسة الإبداعية الشريفة التي جمعته في بداياته مع المُلَحِّنَيْن كمال وطالب القرة غولي، بعد أن كان ثلاثتهم معلمين بالناصرية والبصرة، ليأتي بعدهم "محسن فرحان" و"جعفر الخفاف" ليتابعوا المسيرة.
لكن كانت محبة الحرية التي انتهجها حمزة في ألحانه وفكره سبباً في إقصائه عن رحم البيئة التي ساندته في تنويط الحب والألم والجَمَال، إذ قتلته السياسة مرتين: الأولى حين أقصته بكل قسوة عن عراقه أيام نظام صدام حسين، والثانية حين وقف معارضاً لسلطة ما بعد 2003 في بلاده ليُنفى مرة أخرى.
وعن ذلك قال في أحد حواراته: "ابتعادي عن هذا الرحم يؤذيني ويهزني بعنف، وهو ما أراه أحياناً يضعف جملتي الموسيقية ويشوّه روحي اللحنية. نعم الوجع الدائم لا يخلق فناً أو إبداعاً كبيراً، لذا أكثر المبدعين العراقيين في حال جدب وفي حال عدم قدرة على التعبير، فغربتهم طالت وامتدّ الوجع طويلاً، ومثل هذا الحصار الروحي أشك أنه ينتج فناً عميقاً".
وربما غربة الملحن العراقي هي ما جعلته يعيش في عزلة فنية، فتمر سنوات من دون أن يعزف على العود، ورغم تصاعد شغفه لإنتاج أغنيات جديدة إلا أن المناخات الإنتاجية والأمزجة الهدَّامة لكل ما هو جميل، لم يتيحا له زيادة رصيده الجَمالي، مع أنه كان يمتلك أكثر من أربع أغنيات جاهزة وسجَّل ألحانها بعوده، لكن للأسف لم تبصر النور في ظل الإسفاف الفني المنتشر بكثرة.
ليبقى السر الكامن في استمرارية أغنيات السبعينيات لكوكب حمزة ومجايليه أنها كانت بمثابة قضية للشعراء والملحنين والمطربين، قضية لها علاقة بالوطن والناس، ومن يستمع لها يشعر بذلك، وعلى اختلاف الأزمنة وتغير الأمزجة، إلا أن تلك الأغاني تبقى طازجة؛ لأنها مشغولة بحب والتزام كبيرين وإبداع متجدد.