وقبل أن تعرف الأنظمة الحديثة لتحديد المواقع وتظهر حتما الأقمار الاصطناعية، كان تحديد المواقع على الأرض والسماء يتم بواسطة هذه الآلة المهمة التي رغم بساطتها إلا أنها تحتاج إلى خبرة ودراية في التعامل معها.
كلمة اسطرلاب - حسب تقرير نشر في العربية نت - ذات أصل يوناني، إذا إنها ترجع إلى الكلمة astrolabos المأخوذة من astron وتعني نجما، والمقطع الثاني من كلمة lambanein وتعني أخذ أو تناول.
لكن الكلمة أخذت دلالة عربية وأصبحت جزءاً من القاموس العربي، ويمكن تلخيصها بـ"آخذ النجوم"، في المعنى المباشر لها، نسبة لعلاقة الاسطرلاب بعلم الفلك بما في ذلك أمور الأبراج والتنجيم التي عرفت عند العرب منذ قبل الإسلام.
وبرع العرب في استخدام الاسطرلاب في رصد المسافات الفاصلة بين الأجرام السماوية، وتحديد ساعات الليل والنهار، والجهات الأصلية، وقبل ذلك في صناعة هذه الآلة بدقة متناهية تؤدي إلى نتائج دقيقة أيضا.
ويعود النموذج الأول للاسطرلاب إلى الحضارة الهلنستية اليونانية (انتهت حوالي 150 سنة قبل الميلاد)، وترجع بعض المصادر صناعته إلى عالم الرياضيات "بولونيوس بيرغا" في الفترة بين 220 و150 قبل الميلاد، الذي اشتهر في مجال الهندسيات والمخروطيات.
وهناك من ينسب المبادئ الأساسية للاسطرلاب وفكرته إلى العالم اليوناني هيباركوس، في التشكيل النظري للفكرة، التي تطورت لاحقا في واقع عملي ممثلا في الآلة المستخدمة.
إذا كان من الصعب تحديد من هو الأول والثاني، وكيف تشكلت الفكرة ونمت، إلا أن واقع الأمر يقول إن تطور علوم المثلثات والمخروطيات والهندسة عند العرب، كان لها دور في أن ترى هذه الآلة النور بدرجة أكثر تعمقا وعملية.
وهنا يشار إلى العالم العربي إبراهيم الفزاري، الذي يعتبر أول من صنع الاسطرلاب وقد توفي سنة 796م، وهو كذلك أول من كتب عنه وأسس جدولا يعرف بـ "الزيج" لتحديد مواقع النجوم وحسابات حركتها، وأشار الأديب والمؤرخ ابن النديم إلى أن الفزاري هو أول من عمل في الإسلام اسطرلابا.
من ثم تطور الاسطرلاب على يد أبوسعيد السِجزي (توفي 1084م)، وهو عالم رياضيات ينسب له أنه قال بدوران الأرض قبل أن يقول بذلك كوبرنيكوس، وقد تحدث باكراً عن حركة الأرض، وابتدع الاسطرلاب الأكثر تطوراً المكون من قطبين بدلا من قطب واحد.
ومن ثم كذلك استمر التحديث والتطوير باستمرار للاسطرلاب ليواكب الحراك البحري والتجارة وحركة الجيوش، وهنا ظهرت إسهامات لأسماء كالبيروني والزرقالي "الزركلي" وهو عالم أندلسي ضليع في الفلك توفي 1087م.
منذ منتصف القرن الثامن الميلادي فقد كان العرب يعرفون الاسطرلاب ويطورونه خاصة أنه ارتبط بأمور عملية أخرى، كتحديد أوقات الصلاة والعبادات في الإسلام، وتحديد اتجاه القبلة في مكة وغيرها من احتياجات ذات طابع ديني.
وكان للاسطرلاب سطوته تقريبا إلى القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا ولكن بدأ يفقد هذا البريق مع اختراع الساعات ذات العقارب وابتكار التلسكوبات وغيرها من الأدوات الصناعية الحديثة، لكنه خلّد مكانته في تاريخ بوصفه واحدة من أعظم الآلات في تاريخ الحضارة، ارتبطت بعلاقة الإنسان بالزمان والمكان، تلك العلاقة الجدلية والمعقدة.