في وقت تكاد الحرب السورية تودي بكثير من الحرف التقليدية، تبدي صناعة المكانس في الغوطة الشرقية قرب دمشق قدرة على الصمود والازدهار مدفوعة بطلب كبير مع العجز عن استخدام المكانس الكهربائية في ظل الحصار وانقطاع التيار، وإقبال للعمل فيها هربا من البطالة.
وتشتهر منطقة الغوطة الشرقية المحاصرة من قبل قوات النظام السوري منذ 2013، بصناعة مكانس القش منذ عقود طويلة.
ويقول نذير النداف البالغ من العمر 67 عاما "بدأت هذه المهنة التقليدية في عائلتنا قبل تسعين عاماً، عملت بها مع والدي مذ كان عمري عشر سنوات".
في ورشة صغيرة في مدينة عربين، يجلس نذير على مقعد حديد وبجانبه على الأرض كمية من القش ومعدات بسيطة مثل المطرقة والمسلة والخيط والبخور والمشد، وكلها لا تحتاج أي نوع من مصادر الطاقة.
ويمارس نذير عمله فيما يُسمع بوضوح صوت القصف الذي يستهدف مناطق مجاورة في حي جوبر الدمشقي وبلدة عين ترما.
ويقول لوكالة فرانس برس مباهيا بجودة إنتاجه "المقشة التي أصنعها مكفولة سنة كاملة، بخلاف المقشات التجارية الأخرى".
هجرة الحرفيين
لكن معظم محترفي هذه المهنة هربوا إلى مناطق أخرى قريبة من مزارع القش بين درعا والسويداء، مع بدء المعارك في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، لم يعد تصريف الانتاج إلى مختلف المناطق السورية كما كان في السابق متاحا ًبسبب الحصار، على ما يوضح نذير النداف. وهو وشقيقه من آخر المعلّمين الكبار في هذه الحرفة.
كذلك، يواجه المزارعون صعوبة في ري محصول القش. ويقول محمد الحلاق البالغ من العمر 47 عاماً والذي يعمل في قطف القش في منطقة النشّابية "بسبب قلة المحروقات لا نقدر أن نسقي المحصول كل سبعة أيام، بل كل 12 يوماً، ونستخدم السمنة أو المازوت البلاستيكي بدل الوقود".
ويُزرع القش في منطقتي حزرما والنشابية اللتين يفصلهما عن عربين طريق طويل معظم مساكنه مدمّرة بفعل القصف، ويخلو في معظم الوقت من المارّة والسائقين.
ويستغرق الوقت بين زرع القش وقطفه أربعة أشهر، ثم يحتاج القطاف والقطع والنشر أربعة إلى خمسة ايام ليصبح بعد ذلك جاهزا ليتسلمه صناع المكانس، وفقا للمزارع.
ازدهار رغم الحصار
غير أن هذه العوامل لا يبدو أنها تشكّل أي تهديد لهذه الحرفة التقليدية، بل على العكس من ذلك ارتفع عدد الورشات من خمس قبل الحرب إلى عشرين حاليا، رغم أن بعضها لا يقدّم النوعيّة نفسها المعروفة في المنطقة.
فقد زاد الطلب على مكانس القش خصوصاً بسبب الكفّ عن استخدام المكانس الكهربائية في المنازل نتيجة الحصار وانقطاع الكهرباء، وارتفع سعر بيعها تسعة أضعاف.
ويقول نذير النداف "في العام 2010 كان سعر المقشة 100 ليرة، أما اليوم فسعرها 900 ليرة "1,7 دولار" بسبب غلاء المحروقات والغلاء العام في البلد...الأمور كلها مرتبطة ببعضها".
وتعيش مناطق الغوطة في ظل نقص حاد في المحروقات منذ العام 2013. في ذلك الوقت وصل سعر ليتر البنزين إلى سبعة دولارات، ما دفع السكان إلى استخراج الوقود من البلاستيك عن طريق تذويبها في درجات حرارة معيّنة.
ومع اشتداد الحصار في الآونة الأخيرة، ارتفع سعر الليتر إلى 14 دولاراً.
وقد أدى ذلك، إضافة إلى انقطاع المواد الأولية، لاختفاء حرف كثيرة، ولظهور مهن جديدة بديلة مثل جرّ عربات النقل وصناعة المحروقات من النفايات.
وأدى ذلك أيضاً إلى زيادة الإقبال على العمل في صناعة القش التي تبدو بمنأى عن تداعيات الحصار.
ويقول نذير "لي الفخر أني أعمل في حرفة قديمة، فلولا القديم لما وصلنا إلى الجديد".
وهو يأسف لأن أبناءه لا يرغبون في مواصلة هذه المهنة "المتعبة" التي اكتسبها عن والده.