مرسى .. نقطة وصول وانطلاق. ففي حياتنا نمر بمحطات كثيرة منها ما نواجهه بقوة ومنها ما يتطلب منا الثبات أكثر، حتى نصل لذلك المرسى بأمان أو نقف عنده لننطلق من جديد نعبر جسور الأمل بكل محبة وعطاء..
تنشر لايف ستايل تباعاً قصص الكفاح التي عرضتها الكاتبة إيمان الخاجة في كتاب "مرسى" الصادر عن المؤسسة الخيرية الملكية .. مع الإشارة إلى اختصار تفاصيل القصص بما تقتضيه ظروف النشر ..
-- - - - - - - - - -- - - -
طيف حاني
حنان علي العنفوز:
بين زوايا الغربة جلست أتأمل الخارج حتى أخذت مشاعري تذهب بعيداً، فهناك ذكريات كثيرة تملأ ذاكرتنا، فتمر علينا كطيف أمل يمدنا بالقوة، لذا عشت فترة على هذه الذكريات أنتظر عودة أبي من السفر رغم أن والدتي أخبرتني أنه لن يعود..
مر يومان لم نذهب أنا واخوتي لزيارة والدي في المستشفى، فهممت أنا وأخي التوأم جعفر لسؤال والدتي عنه فأبلغتنا أنه سافر ولن يعود. بعدها جمعتنا أنا واخوتي وحدثتنا بكلام لم أعرف معناه ولم أدرك ما قالته سوى أننا لن نتمكن من رؤيته مرة ثانية، ولصغر سني لم أصدق الفكرة في عقلي، وبقيت على أمل أن يأتي ذلك الوقت الذي يرجع فيه.
توالت الأيام والشهور دون أن أشعر بوجود اختلاف في حياتي، سوى أن والدتي زادت عليها المسؤوليات، وأصبحت هي كل شيء في حياتنا، بل أخذت تقربنا بشكل أكثر من باقي أهلنا وزادت الزيارات بين بعضنا البعض، وكانت والدتي – حفظها الله – قوية، أعطتنا القوة لنكمل حياتنا ونمشي على الطريق الصحيح، تتابعنا أولاً بأول، تعلمنا التكيف مع الحياة وتذكرنا دائماً بوالدي وبإنجازاته ليكون قدوةً لنا ودافعاً للتقدم في الدراسة ومواصلة مشوار الحياة.
دخلت المرحلة الابتدائية لأعيش عالماً جديداً. تكونت لي صداقات، و لاحظت أن كل صديقاتي يتحدثن عن والدهن إلا أنا، هنا لمست الفرق بيني وبينهن، فتوجهت بأسئلة كثيرة إلى والدتي حول سبب غياب والدي وموعد رجوعه، عند هذه النقطة فهمت معنى الموت وأن والدي رحل بقضاء الله وقدره و لن يعود لأراه مرة أخرى.
وفي أحد أيام الصف الأول أعطتني مربية الفصل ورقة خاصة برحلة ترفيهية تعتزم المدرسة أخذنا لها، وطلبت منا الحصول على توقيع الأب وإعادتها في اليوم الثاني، هنا كستني مشاعر الألم وتضايقت كثيراً، عدت إلى المنزل وأخذت في البكاء، أخبرت والدتي برغبتي في الذهاب مع البنات و لن أتمكن من ذلك كون والدي تركنا وسافر دون عودة. هنا احتضنتني أمي، غمرتني بعطفها وحنانها، مسحت دموعي وقالت: سأوقع أنا فلا يفرق إن وقعت الأم أو الأب. فرحت كثيراً وأعدت ورقتي إلى المدرسة في اليوم الثاني وسلمتها لمعلمتي، وبعد مرور ساعة من تجميع أوراق الطالبات، قامت المعلمة بمناداتي وتوبخني أمام الجميع لعدم وجود توقيع والدي وقيام والدتي بالتوقيع بدلاً عنه، وسألتني: لماذا لم يوقع والدك ووقعت أمك؟؟ هنا تجمدت في مكاني، شعرت بأن لساني أصابه الخرس فلم يعد لدي قدرة على الكلام، أعادت المعلمة السؤال أكثر من مرة دون أن تنبس شفتاي بكلمة أو حرف، و بعد أن وجهت السؤال للمرة الأخيرة، تفجرت الدموع من عينّي كأن خبر وفاة والدي يقال لي للتو، بكيت بشدة وصرخت قائلة: أبي ذهب ولن يعود ولن أراه مرة أخرى. هنا صعقت المعلمة لهول ما قلته، أخذتني على جنب تحاول تهدئتي، تغيرت معاملتها معي بعد هذا اليوم، أصبحت تهتم بي وتميزني عن باقي البنات، لم أستسغ ذلك الشعور ولم أنس نظرات الشفقة من الطالبات بعد علمهم بوفاة والدي.
شغلت نفسي بالدراسة لأركز فيها، نلت التفوق منذ بداية المراحل وحافظت عليه طوال السنين المختلفة.. علاقتي بالرسم ولدت معي منذ نعومة أظفاري كوني تربيت في بيت يعشق الفن بكل أنواعه، فخالاتي يحببن الرسم والأعمال اليدوية، وخوالي يحبون التصوير، ومن هنا بدأت أمارس الرسم بشكل أكبر.
اتفقنا أنا واخوتي أن نخفف عن والدتي مسؤولياتها ولا نرهقها بكثرة طلباتنا، فحاولنا مساعدتها بالأمور البسيطة قدر المستطاع كتنظيف المنزل والطبخ وشراء الحاجيات من البقالة وغيرها من الأمور التي نستطيع تحملها، لأنها كانت ولا زالت الأم المثالية بالنسبة لنا في كل شيء،..ومع مضي الأيام دخلت المرحلة الثانوية وفي هذه الفترة ركزت بشكل أكثر على هدف التفوق لأنال بعثة دراسية تمكنني من تحقيق حلمي بدراسة الطب، ولأريح والدتي من عبء مصاريف الدراسة، مضيت قدماً في هذا الطريق، سهرت، كافحت، تعبت، فجاءت النتيجة كما أحلم بها، أصبحت من الأوائل على مملكة البحرين وتخرجت بمعدل 98%،حصلت على بعثة دراسية أخرى من وزارة التربية والتعليم للدراسة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ورغم أن التخصص مختلف عما رغبته إلا أني قبلت بهذه البعثة واتجهت إلى جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيات لدراسة هندسة معدات طبية، كونه قريب لمجال الطب الذي طالما حلمته فأرضى شيئاً من طموحي، وقلت "لعله خير".
مرت 4 سنوات في بلدي الثاني الإمارات توجت بمشروع تخرجي الذي نال درجة الامتياز وهو عبارة عن تصميم وتنفيذ نموذج ذكي ومبتكر لسير العملية الصحية بالمستشفيات، باستخدام تكنولوجيا متطورة وسريعة للحماية من السرقات والأخطاء الطبية في صرف الأدوية والاستشارات الطبية، وقد نال هذا الابتكار إشادة أكاديمية وعلمية خلال تطبيقه في مستشفى زايد بإمارة عجمان. كما شاركت فيه بعدة مسابقات علمية للبحوث والتطوير بجامعة زايد و جامعة أبوظبي والجامعة الأمريكية بالشارقة وجامعة العين ونلت فيهم شهادة مشاركة.
وفي 22 أكتوبر 2016 تخرجت بمرتبة امتياز مع مرتبة الشرف في تخصص هندسة المعدات الطبية، كانت لحظة التتويج لحظة تاريخية لا تنسى. فكأني أسمع وأرى أبي بالقرب من عائلتي واقفًا لتحيتي وتشجيعي والدموع ملء عيني، تقدمت على المنصة لاستلام الشهادة وسمعت كلمات التشجيع والتحفيز من عميد كُليتي والتي شكلت لي دافعاً قوياً للاستمرار في الريادة، هذه اللحظة جعلتني أفخر بنفسي وأحمد الله أن وفقني لرفع اسم البحرين عاليًا.
عدت للوطن وبدأت العمل لدى شركة أجهزة طبية رائدة في قسم التسويق والصيانة لأستمر في العطاء وأواصل تحقيق أحلامي. فأنا الآن أحلم باختراع جهاز طبي يساعد مرضى السرطان على الشفاء، وأتمنى أن اكتشف علاجاً له وأتعمق في البحث أكثر عن أسبابه وطرق التعامل معه، وأنجز العديد من البحوث الطبية والعلمية التي تفيد المجتمع وأسهم في تقدم العلم في المجال الصحي.
{{ article.visit_count }}
تنشر لايف ستايل تباعاً قصص الكفاح التي عرضتها الكاتبة إيمان الخاجة في كتاب "مرسى" الصادر عن المؤسسة الخيرية الملكية .. مع الإشارة إلى اختصار تفاصيل القصص بما تقتضيه ظروف النشر ..
-- - - - - - - - - -- - - -
طيف حاني
حنان علي العنفوز:
بين زوايا الغربة جلست أتأمل الخارج حتى أخذت مشاعري تذهب بعيداً، فهناك ذكريات كثيرة تملأ ذاكرتنا، فتمر علينا كطيف أمل يمدنا بالقوة، لذا عشت فترة على هذه الذكريات أنتظر عودة أبي من السفر رغم أن والدتي أخبرتني أنه لن يعود..
مر يومان لم نذهب أنا واخوتي لزيارة والدي في المستشفى، فهممت أنا وأخي التوأم جعفر لسؤال والدتي عنه فأبلغتنا أنه سافر ولن يعود. بعدها جمعتنا أنا واخوتي وحدثتنا بكلام لم أعرف معناه ولم أدرك ما قالته سوى أننا لن نتمكن من رؤيته مرة ثانية، ولصغر سني لم أصدق الفكرة في عقلي، وبقيت على أمل أن يأتي ذلك الوقت الذي يرجع فيه.
توالت الأيام والشهور دون أن أشعر بوجود اختلاف في حياتي، سوى أن والدتي زادت عليها المسؤوليات، وأصبحت هي كل شيء في حياتنا، بل أخذت تقربنا بشكل أكثر من باقي أهلنا وزادت الزيارات بين بعضنا البعض، وكانت والدتي – حفظها الله – قوية، أعطتنا القوة لنكمل حياتنا ونمشي على الطريق الصحيح، تتابعنا أولاً بأول، تعلمنا التكيف مع الحياة وتذكرنا دائماً بوالدي وبإنجازاته ليكون قدوةً لنا ودافعاً للتقدم في الدراسة ومواصلة مشوار الحياة.
دخلت المرحلة الابتدائية لأعيش عالماً جديداً. تكونت لي صداقات، و لاحظت أن كل صديقاتي يتحدثن عن والدهن إلا أنا، هنا لمست الفرق بيني وبينهن، فتوجهت بأسئلة كثيرة إلى والدتي حول سبب غياب والدي وموعد رجوعه، عند هذه النقطة فهمت معنى الموت وأن والدي رحل بقضاء الله وقدره و لن يعود لأراه مرة أخرى.
وفي أحد أيام الصف الأول أعطتني مربية الفصل ورقة خاصة برحلة ترفيهية تعتزم المدرسة أخذنا لها، وطلبت منا الحصول على توقيع الأب وإعادتها في اليوم الثاني، هنا كستني مشاعر الألم وتضايقت كثيراً، عدت إلى المنزل وأخذت في البكاء، أخبرت والدتي برغبتي في الذهاب مع البنات و لن أتمكن من ذلك كون والدي تركنا وسافر دون عودة. هنا احتضنتني أمي، غمرتني بعطفها وحنانها، مسحت دموعي وقالت: سأوقع أنا فلا يفرق إن وقعت الأم أو الأب. فرحت كثيراً وأعدت ورقتي إلى المدرسة في اليوم الثاني وسلمتها لمعلمتي، وبعد مرور ساعة من تجميع أوراق الطالبات، قامت المعلمة بمناداتي وتوبخني أمام الجميع لعدم وجود توقيع والدي وقيام والدتي بالتوقيع بدلاً عنه، وسألتني: لماذا لم يوقع والدك ووقعت أمك؟؟ هنا تجمدت في مكاني، شعرت بأن لساني أصابه الخرس فلم يعد لدي قدرة على الكلام، أعادت المعلمة السؤال أكثر من مرة دون أن تنبس شفتاي بكلمة أو حرف، و بعد أن وجهت السؤال للمرة الأخيرة، تفجرت الدموع من عينّي كأن خبر وفاة والدي يقال لي للتو، بكيت بشدة وصرخت قائلة: أبي ذهب ولن يعود ولن أراه مرة أخرى. هنا صعقت المعلمة لهول ما قلته، أخذتني على جنب تحاول تهدئتي، تغيرت معاملتها معي بعد هذا اليوم، أصبحت تهتم بي وتميزني عن باقي البنات، لم أستسغ ذلك الشعور ولم أنس نظرات الشفقة من الطالبات بعد علمهم بوفاة والدي.
شغلت نفسي بالدراسة لأركز فيها، نلت التفوق منذ بداية المراحل وحافظت عليه طوال السنين المختلفة.. علاقتي بالرسم ولدت معي منذ نعومة أظفاري كوني تربيت في بيت يعشق الفن بكل أنواعه، فخالاتي يحببن الرسم والأعمال اليدوية، وخوالي يحبون التصوير، ومن هنا بدأت أمارس الرسم بشكل أكبر.
اتفقنا أنا واخوتي أن نخفف عن والدتي مسؤولياتها ولا نرهقها بكثرة طلباتنا، فحاولنا مساعدتها بالأمور البسيطة قدر المستطاع كتنظيف المنزل والطبخ وشراء الحاجيات من البقالة وغيرها من الأمور التي نستطيع تحملها، لأنها كانت ولا زالت الأم المثالية بالنسبة لنا في كل شيء،..ومع مضي الأيام دخلت المرحلة الثانوية وفي هذه الفترة ركزت بشكل أكثر على هدف التفوق لأنال بعثة دراسية تمكنني من تحقيق حلمي بدراسة الطب، ولأريح والدتي من عبء مصاريف الدراسة، مضيت قدماً في هذا الطريق، سهرت، كافحت، تعبت، فجاءت النتيجة كما أحلم بها، أصبحت من الأوائل على مملكة البحرين وتخرجت بمعدل 98%،حصلت على بعثة دراسية أخرى من وزارة التربية والتعليم للدراسة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ورغم أن التخصص مختلف عما رغبته إلا أني قبلت بهذه البعثة واتجهت إلى جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيات لدراسة هندسة معدات طبية، كونه قريب لمجال الطب الذي طالما حلمته فأرضى شيئاً من طموحي، وقلت "لعله خير".
مرت 4 سنوات في بلدي الثاني الإمارات توجت بمشروع تخرجي الذي نال درجة الامتياز وهو عبارة عن تصميم وتنفيذ نموذج ذكي ومبتكر لسير العملية الصحية بالمستشفيات، باستخدام تكنولوجيا متطورة وسريعة للحماية من السرقات والأخطاء الطبية في صرف الأدوية والاستشارات الطبية، وقد نال هذا الابتكار إشادة أكاديمية وعلمية خلال تطبيقه في مستشفى زايد بإمارة عجمان. كما شاركت فيه بعدة مسابقات علمية للبحوث والتطوير بجامعة زايد و جامعة أبوظبي والجامعة الأمريكية بالشارقة وجامعة العين ونلت فيهم شهادة مشاركة.
وفي 22 أكتوبر 2016 تخرجت بمرتبة امتياز مع مرتبة الشرف في تخصص هندسة المعدات الطبية، كانت لحظة التتويج لحظة تاريخية لا تنسى. فكأني أسمع وأرى أبي بالقرب من عائلتي واقفًا لتحيتي وتشجيعي والدموع ملء عيني، تقدمت على المنصة لاستلام الشهادة وسمعت كلمات التشجيع والتحفيز من عميد كُليتي والتي شكلت لي دافعاً قوياً للاستمرار في الريادة، هذه اللحظة جعلتني أفخر بنفسي وأحمد الله أن وفقني لرفع اسم البحرين عاليًا.
عدت للوطن وبدأت العمل لدى شركة أجهزة طبية رائدة في قسم التسويق والصيانة لأستمر في العطاء وأواصل تحقيق أحلامي. فأنا الآن أحلم باختراع جهاز طبي يساعد مرضى السرطان على الشفاء، وأتمنى أن اكتشف علاجاً له وأتعمق في البحث أكثر عن أسبابه وطرق التعامل معه، وأنجز العديد من البحوث الطبية والعلمية التي تفيد المجتمع وأسهم في تقدم العلم في المجال الصحي.