وينكشف سر هذه العبارة التي نستخدمها جميعاً، وفي مناسبات شتى، عندما نستهدف معنى العطاء والقبول والسماح، عندما نعود إلى معنى كلمة الحب، أصلاً، في أقدم استعمالاتها القاموسية القديمة، وكذلك الاصطلاح الذي سمح للكرامة أن تكون اسماً لمسمى قد غمض عن كثير من الناس الذين قد يفاجئهم مضمونها.
فالحب، هو ما نعرفه الآن ونستعمله في اللغة، إلا أنه يتضمن معنى آخر أو استعمالاً آخر مختلفاً. لأن الحب في اللغة العربية من الكلمات التي تشترط الملازمة والبقاء والثبات، ولهذا يقال كما ينقل "تاج العروس": "أَحَبّ البعير" إذا برَك. أي الفلسفة الألسنية لتلازم حرفي الحب والباء، غني بمعنى القرب والملازمة وانعدام الحركة أو شحّها في حدّ أدنى.
ويرد في التاج، أن الإحبابَ في البعير، هو أن يبرك! ثم ينقل: الإحباب أن يشرف البعير على الموت من شدة المرض، فيبرك ولا يقدر أن ينبعث. ولهذا ينطلق الفيروز آبادي، كالسهم، وهو يعرّف معنى الحب: "والحُبُّ هو الجرَّةُ".
مفاجأة من العيار الثقيل، أن الحب هو الجرة التي يمكن ملؤها بأي شيء، ولا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى لغوي بحجم بن فارس. ففي كتابه "معجم مقاييس اللغة" يفرد للحب ما يلي: "الحاءُ والباءُ أصولٌ ثلاثة، أحدها اللزوم والثبات، والآخر الحَبَّة من الشيء ذي الحَب، والثالث من القصر".
أصل اللزوم والثبات، في معنى الحب، وأصل كلمة الحّب، كحب القمح، يوضح كيف أن الحب ذاته كان الجرّة التي أشار إليها الفيروز آبادي. إلا أن "لسان العرب" يوغل في الشرح ويكمل إحداث المفاجأة، ويعطي معنى للحُب ليس بعيداً من الأول: "الحب هو الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرّة ذات العروتين".
أي أن الحب عوضاً من أن يكون الجرة، أصبح حاملاً لها، عند لسان العرب الذي عاود التذكير بالنقل، أن البعير المُحبّ الذي أحب إحباباً، هو أن يصيبه مرضٌ أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت! وينتهي: الإحبابُ هو البروك. فمن الطبيعي أن يكون الحب هو الجرة، أو حامل الجرة، لطالما حمل الاثنان مع اللزوم والبقاء.
أي أن ما قطع به بن فارس بأصل حرفي الحب مرتبط بمعنى اللزوم والثبات، هو في أصل هذا الاستعمال المغرق في القدم. وفعلاً، من يحبّ أحداً يلازمه، ولا يتركه، ولهذا يقال عن البعير "محب" إذا بقي في مكانه، لسبب محدد.
" العين" أقدم قواميس العربية يوضح هذا السرّ البياني، أكثر، فيقول: "الحُب (هو) الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرّة" ثم ينقل وهو أقدم من نقل في القواميس: "وقيل في تفسير الحب والكرامة: إن الحبّ (هو) الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة ذات العروتين، (أمّا) الكرامة (فهي) الغطاء الذي يوضع فوق الجرة، من خشب أو من خزف".
وبعد أن تركها كما هي، تجرّأ عليها الفيروز آبادي ، إذ مهّدت الأرض لهذا المعنى، فيقول في محيطه: "الحبّ الجرّةُ، أو الخشبات الأربع توضع عليها، والكرامة غطاء الجرّة: ومنه حباً وكرامةً".
هكذا يتحدث صراحة عن استعمال "حباً وكرامة"، وكيف قيلت في سياقٍ أصله الجرّة وحاملها، فيكون استعمالها في معنى التقدير والحفظ ورفع الشأن. مع الإشارة إلى أن ثمة من يبدل بأصل المسميات، فيضع الكرامة اسماً لغطاء الجرة لا الجرة ذاتها، والعكس.
إلا أنه في جميع الحالات فإن الحب فاجأنا بأنه الجرة، وفاجأنا بأنه حامل الجرة، ثم تأتي الكرامة لتكون غطاء لهذا الشيء. ولهذا فإن حباً وكرامة، بدأت في الجرة وحاملها وغطائها، وأصبح استعمالها يعني ما يعنيه من قبول وتقدير للشأن، من أعلاه لأدناه، وحماية وحفظ للآخر أو للموضوع المتداول، أيا كان، وفي أي سياق.
نقلا عن العربية نت