صنعاء - سرمد عبدالسلام

غالباً ما يجعل اليمنيون من أخر ليالي شهر شعبان ليلة استثنائية، إيذاناً بتدشين شهر فضيل ينتظرونه كل عام بفارغ الصبر

ويستثمر كثير من اليمنيين هذه الليلة إلى ساعة متأخرة بالتهليل والتكبير والترحيب عبر المآذن والسمر حتى موعد أول وجبة سحور يستمتع أفراد العائلة بتناولها وسط أجواء من الانشراح والابتهاج، والتي قد يجتمع الأقارب أو الجيران معاً في هذه الوجبة، بينما يتبادل بعض الجيران ألواناً مختلفة من الأطعمة التي تحرص النسوة على إعدادها خصيصاً لمناسبة كهذه.

ويقوم الأطفال بالتنصير وهو إشعال مادة الرماد المعجونة بالجاز التي توضع في علب خاصة، أو إحراق إطارات السيارات كتعبير عن الفرحة بقدوم شهر الصوم.

وتتغير حياة اليمنيين بشكل شبه كلي خلال شهر رمضان، فالحياة تبدو غير معتادة خلال هذا الشهر ابتداء من أنواع المأكولات وخاصة الحلويات التي ترتبط به دون غيره من الشهور ، وليس انتهاء بالسهر الذي يستمر لساعات متأخرة من الفجر عكس المعتاد في باقي أيام السنة والذي ينتهي يومهم فيها عند العاشرة مساء على أكثر تقدير.

وينقلب المشهد الحياتي منذ حلول اليوم الأول لرمضان في اليمن؛ حيث تتحول معظم المدن في الصباح إلى سكون شبه تام كالليل، بينما يصبح ليله كالنهار ممتلئاً بالصخب والحركة الدؤوبة.

وتبدأ شوارع المدن الرئيسية يومها الرمضاني بحركة خفيفة تتصاعد تدريجياً حتى تبلغ ذروتها مع اقتراب موعد الإفطار، ثم تخلو الشوارع مجدداً من المارة الذين يختفون في المساجد أو في منازلهم، قبل أن تعود عجلة الدوران في الشوارع بعدها بقليل وتستمر حتى ساعات الفجر الأولى .

ويبالغ اليمنيون في الاستمتاع بهذا الشهر الذي ينتظرونه طوال العام، فيما يزداد الإقبال بشكل لافت على شراء واستهلاك المواد الغذائية .

ويفضل معظم الموظفين الحكوميين ادخار إجازاتهم السنوية إلى هذا الشهر الفضيل بحيث يتسنى لهم قضاء رمضان بأكمله رفقة العائلة والأهل لاسيما في الأرياف والتفرغ للعبادة والذكر .

أما باقي الموظفين غير المجازين في أجهزة الدولة الرسمية فيبدؤون دوامهم الرمضاني متأخراً عن باقي الشهور بنحو ساعتين وتحديداً عند الساعة العاشرة صباحا وحتى الثالثة ظهرا أي بعد الموعد المقرر في الأيام العادية بساعتين.

لكن ورغم ذلك تتحول الحياة في النهار إلى حالة جمود غير عادية وبالمقابل يتحول الليل الرمضاني إلى نهار بكامل الحركة والتسوق والتجول في الشوارع والأسواق التي تبقى في الغالب مزدحمة حتى الفجر الذي يعيدها إلى حالة السكون مجدداً بانتظار ليلة جديدة.

طقوس رمضانية

ويقضي كثير من اليمنيين ليلهم في مجالس القات وخلال تلك المجالس تقام العديد من الندوات الدينية والسياسية والثقافية والأمسيات الشعرية إضافة إلى النقاشات المختلفة حول مواضيع مختلفة.

وأيضاً ممارسة الطقوس الرمضانية الدينية بإقامة "موالد" يتم فيها إنشاد الموشحات التي تتغنى بالخالق الأعظم و النبي عليه الصلاة والسلام وتذكر بقيم الدين الإسلامي السمحة.

والبعض الآخر يبقى متسمراً أمام الفضائيات لاسيما المحلية لمتابعة ما تعرضه من جديد على مستوى المسلسلات الدرامية او البرامج ذات الطابع الترفيهي والمسابقاتي.

ولرمضان في اليمن نكهة روحانية خاصة تكاد تميزه عن معظم الدول العربية، فالمساجد ممتلئة بالمصلين حيث تسمو القلوب والنفوس في أجواء روحانية عامرة.

وبمجرد أن يمسك الصائمون عن الأكل والشرب، يتغير مذاق الوقت، وتنزل السكينة على كافة التفاصيل ، معانقة الصوامع والقباب، والبيوت والأسواق.

وتتفرد المدن اليمنية بطابعها الروحي الخاص إذ تتشكل كثير من حلقات قراءة القرآن في المساجد الأثرية الشهيرة، ومن أبرزها الجامع الكبير بصنعاء الذي يمنح المدينة ميزة روحية فريدة قد لا تمتلكها مدن أخرى، ويعد ذلك انعكاساً لمكانة الجامع الكبير في صنعاء كواحد من أهم وأقدم الجوامع في اليمن والجزيرة العربية عموماً،

إضافة إلى دوره الريادي كمدرسة إسلامية عريقة ملهمة روحياً لكثير من الباحثين عن الاطمئنان والسكينة بعيداً من ضجيج الحياة.

ويقدم الجامع الكبير الذي يتوسط صنعاء القديمة دوراً اجتماعياً مهماً في حياة ساكني المدينة

إذ يلتقي الرجال والشباب والصبيان في المساجد، وقد أحضر كل فرد منهم شيئا مما تطيب له نفسه من المأكولات والمشروبات، فيجتمعون في حلقات صغيرة واضعين ما أتوا به مع بعض ليشتركوا في تناوله، في حالة تمثل شكلاً من التكافل الاجتماعي الذي يبلغ ذروته في رمضان.

في حين تتحول صنعاء في شهر رمضان إلى حلقة كبيرة لقراءة القرآن، ينتشر القراء فيها على جنبات الشوارع والأرصفة والزوايا، كما يزدهر بيع "السبحات" المصنوعة من الأحجار الكريمة والحوامل المزخرفة للقرآن

مأكولات رمضانية

على الرغم من الحالة الاقتصادية السيئة التي يعاني منها غالبية اليمنيين إلا أن ما يميز شهر رمضان الإقبال الشديد على بعض المأكولات والمشروبات الشعبية المشهورة التي أصبحت جزءا من التراث الرمضاني، وتضم المائدة اليمنية أصنافاً متعددة من المأكولات في وجبة الإفطار أو العشاء ومنها "الشفوت"، الذي يتكون من اللحوح وهو عبارة عن خبز طري لين مصنوع من دقيق القمح أو الذرة الرومية، توضع العجينة على وعاء فخاري أو معدني لتطبخ على نار هادئة حتى تنضج وبعدها يتم ترتيبه في إناء عريض على شكل طبقات رقيقة يضاف إليها اللبن والزبادي والخضار المهروسة.

وهناك أيضاً (بنت الصحن) حيث يتم تشكيل عجينة مكونة من الدقيق مخلوطة بالسمن والبيض والخميرة وحبة البركة على هيئة أقراص رقيقة جدا ثم توضع في الفرن حتى تنضج وبعدها يضاف إليها العسل.. فضلا عن أطباق أخرى مثل السلتة التي تتكون من حساء اللحم والأرز والخضار المهروسة والحلبة المخفوقة وتفضل طباختها في إناء من الفخار حتى يحتفظ بدرجة الحرارة خلال الأكل.

و الشوربة وهي عبارة عن حبات القمح نصف مدقوقة عادة ما تكون بحساء اللحم او بالحليب

وتزخر المائدة الرمضانية في اليمن بأصناف متعددة من الحلويات التي يرتبط بعضها بهذا الشهر فقط ومن أشهر هذه الحلويات - الرواني والقطائف والشعوبية والبسبوسة والبقلاوة والكنافة والبسيمة، فضلاً عن العصائر مثل "القديد" وهو منقوع المشمش وأيضاً الزبيب وهو عبارة عن منقوع العنب المجفف وكذلك الشعير المنقع وأنواع أخرى من المشروبات الخفيفة

وعادة ما تنتعش الأسواق الشعبية اليمنية بصفة عامة في شهر رمضان فالزائر لها يشعر بولوج حقبة تاريخية قديمة لبدائية صناعاتها وطريقة عرض بضائعها بأساليب تقليدية قديمة تشعر الزائر بأنه يقلب صفحات من التاريخ، فهنا يوجد معمل طحن البن وبجانبه الجمل يدور حول المطحنة معصوب العينين وهناك معمل آخر لعصر السمسم وبطريقة مشابهة للأولى وفي الجهة الأخرى أنواع مختلفة من الحبوب والبهارات المعروضة بأكياس وأواني تمثل في ألوانها المختلفة شكلا يجذب الزبون ويلفت النظر

مدفع الإفطار والسحور

جرت العادة منذ زمن بعيد أن يتم إشعار الناس بمواعيد الإفطار عبر مدفع عتيق يدوي صوته من إحدى ضواحي المدينة و بدونه لا يشعر الصائمون بلذة الإفطار حتى لو ارتفعت مكبرات المساجد بالأذان..

وما إن يسمع الأطفال صوت هذا المدفع العثماني العتيق الذي يسمونه مدفع "علي حمود" وهو يدوي بالانفجار تتعالى صيحاتهم بصوتٍ واحدٍ "هييييه" تعبيراً عن سعادتهم بعفوية وتلقائية ليستمر ذلك طوال شهر رمضان.