عماد المختار
حكاية الأبناء المغتربين تطول من بداياتها إلى نهايتها.. وبين البدايات والنهايات حكايات يرويها من عاني بُعْدَ الأبناء، وألم الفراق، وكثرة الاشتياق، يسافر الأبناء مع أحلامهم للعلم والمعرفة وللعمل والشغل، ويغدو الآباء مع آلامهم وانتظاراتهم، وتتسع الفجوات وتزداد المعاناة إذا تجاهل الأبناء في غربتهم السؤال عن الآباء والأمهات، وانقطعت الصلة بالأرحام. وتقصر المسافات بوسائل الاتصال الحديثة، إذا رغب الأبناء في السؤال عن صحة الآباء وعبروا عن ولاء للأوطان. وفي غياب السؤال تزداد المعاناة.
"الوطن" تبحث الوجه الآخر للمعاناة.. حكايات لا تنتهي مع المعاناة.. لآباء وأمهات من البحرين والأردن وتونس ومصر، اكتووا بنار المعاناة بعد آبنائهم المغتربين وذاقوا مرارة ابتعادهم عنهم، وتقبَّلوا الواقع المؤلم على مضض.. مكرهين أو مختارين.. فللضرورة أحكام..
ونبدأ الحكاية من البحرين..
الغربة كربة
تروي آمنة منصوري وهي بحرينية وموظفة ببنك، تجربتها مع سفر أولادها إلى الخارج قائلة: "أترك لأولادي حرية الاختيار، حتى أن بعضهم قرر استكمال دراسته في الخارج، فابنتي سناء حصلت على رسالة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من ماليزيا، وأنهى أحمد ابني الدكتوراه في جامعة عين شمس مصر، وقد شعرت بالشوق الكبير إليهما أثناء سفرهما في فترة متقاربة جدا، لأنني كنت أحب أولادي كثيراً".
وتضيف منصوري: في الحقيقة كنت أفضّل بقاءهما إلى جانبي، لكن مع عدم وجود دراسات الدكتوراه بالبحرين في اختصاصهما، تحملت ألم الفراق ولم أشأ أن أقف ضد مصلحتهما، علماً أنني أعاني بعدهما عني فالغربة كربة، ولكن أتحمل من أجل سعادتهما".
التواصل الذكي
في البداية تتحدث أم محمود وهي معلمة رياض أطفال من تونس ومقيمة بالبحرين عن معاناتها مع اغتراب ابنتها الكبرى، قائلة: "لي ثلاثة أبناء، ولد وبنتان، أنا وزوجي أبو محمود نحترم جداً خياراتهم التعليمية، فلم نعارض رغبة ابنتي الكبرى "غفران" بعد نجاحها في التوجيهي في إتمام دراستها بفرنسا، ولم نصدها عن طموحها، وبعد جلسة مناقشة لآفاق الدراسة هناك، لم نمانع، خاصة بعد أن وجدنا لها الجامعة المناسبة لاختصاص "إدارة الأعمال والتسوق الإلكتروني"، ومقرراتها الأساسية بالإنجليزية". وتضيف أم محمود في الفترة الأولى تقبلت بعدها عني، وكانت وسائل الاتصال الذكي تقربنا.. خففت كثيراً من ألم الاغتراب بيني وبين ابنتي، فقد حددنا يوميا موعدا للتواصل المباشر عبر تقنية الفيديو.. ولكن بعد الشهر الأول بدأت تظهر على وجهها علامات الشحوب على وجهها.. وانشغلت لوضعها".
انشغال دائم
وتشير مبروكة محمد وهي ممرضة متقاعدة إلى أنها تشعر بألم الفراق لالتحاق ابنتها الصغرى وابنها إلى الخارج بزوجها أبو عبدالله مهندس البترول الذي سافر قبل سنة في بعثة عمل إلى إحدى الدول الخليجية، رغم أنها كانت سعيدة لتمتع ابنتها بالاستقرار العائلي، ولحصولها على وظيفة محترمة هناك، وكانت سعيدة بخلاص ديونها، وبشرائها فلة فخمة.
وتضيف مبروكة محمد: "وسائل الاتصال الحديثة، وزياراتي الدورية لها، خاصة بعد أن رزقها الله بمولود ثان، خففت كثيراً من ألم الاغتراب بيني وبين ابنتي، حيث كنا نتواصل بصفة يومية، للإطمئنان عنها وعن زوجها وابنيها، وهذه نعمة من الله في التخفيف من الشعور بالاغتراب بين الآباء والأمهات من جانب، والأبناء والبنات المسافرين إلى الخارج من جانب آخر". وتستذكر مبروكة محمد تجربة سابقة لابنتها البكر التي سافرت إلى بلد أوروبي صحبة زوجها في ثمانينات القرن الماضي، في ظل وسائل التواصل الشحيحة، وقالت كنا نتلقى إشعارا قبل أسبوع من التواصل، يحدد زمان المكالمة الهاتفية لوقت محدود، فلا نكاد نستأنس بالتواصل ومع انقطاع المكالمة يتقطع الفؤاد، وتزداد الهواجس، وأشعر بالقلق الدائم عليها، بصفتي أمّاً لها مشاعر فياضة نحو ابنتاي الوحيدتين.
وتنهي مبروكة محمد حديثها قائلة: "أحلم بعودة ابنتي وأسرتها إلى جانبي، وإلى جانب أختها الكبرى التي أنهت من خمس سنوات تجربتها مع الغربة، وعادت نهائيا إلى البحرين، خاصة أن ظروفي الصحية غير المستقرة، لم تعد تسمح لي بالزيارات الدورية لها".
أقترض أنا ولا يحتاج ابني
أما أبو أنس وهو مدرس أردني، فتحدث يقول: وسائل الاتصال الحديثة لم تعوضنا غياب ابني أنس الذي سافر إلى أوكرانيا لدراسة الطب هناك، ويحكي خاصة معاناة أمه النفسية بسبب سفر ابنها البكر، وغيابه عنها سنة كاملة، أثارها إلى حد اللهج بذكر اسمه يوميا وهو الغائب الحاضر، وحتى أنها تنادي أحد إخوانه باسم "أنس" لا باسمه من كثرة ما جرى اسمه على لسانها. ويتابع أبو أنس قائلا: والحقيقة أن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة لم تستطع تعويضها عن ذلك، لأن الأم هي الأم دوما وأبدا، خاصة إذا كانت مشاعرها حساسة ومكانته متميزة إلى جانب إخوانه، وتتألم لفراق ابنها سواء كان كبيراً أو صغيراً. ويضيف أبو أنس قائلا: الحالات التي ينشغل فيها بالي عن ابني أكثر من أي شيء هو عندما يطلب دعما ماليا ولا يكون معي، كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني، فالولد في غربة ومن دون مال ماذا سيفعل؟ فلا أتردد في طلبه، أقترض من البنك، من زملائي المدرسين، ولا أتركه في حاجة مادية.. ولا في خصاصة.. رغم أني واثق تمام الثقة من انضباط ابني.. واهتمامه بالدراسة. والحمد لله هو الآن تخرج، وتحصل على الدكتوراه.. وصار يشتغل بالأردن.. واقشعت الضائقة المالية، ولكننا ظللنا بعيدين عنه، فنحن مازلنا مقيمين بالبحرين ولا نلتقي إلا مرة أو مرتين في السنة.
جحود وإنكار
يلخص محمد أحمد العرادي، متقاعد من الإعلام، معاناته بسبب سفر ابنه الوحيد عادل للعمل ممرضا بأيرلندا، بقوله: صدق القائل "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، سافر ونسي أن له أباً وأمّاً لهما حقوق عليه، وأنهما صاحبا فضل عليه بعد الله في وجوده في هذه الحياة والنجاح فيها".
ويضيف العرادي: للأسف أنا بعيد عن قلب ابني الوحيد المهاجر إلى أيرلندا، خاصةً بعدما حصل على جنسيتها وتزوج هناك واستقر، ولم أره منذ سنوات طويلة، وانشغل بحياته هناك وتركني أعاني وأمه ويلات الفراق والبعد والمرض.
ويضيف: أنا لا أنتظر منه مساعدة أو عوناً، أريد فقط رؤيته ورؤية أبنائه الثلاثة، ولد وبنتين.. أريد منه أن يتصل بأمه على الأقل، يكلمها يطمئنها.. فالمسكينة كلما ذكرته تدمع عيناها ويتفتت كبدها. ويشير العرادي إلى أنه بعد عشر سنوات، حمل زوجته وسافر إليه وحاول إقناعه بالعودة إلى البحرين والاستقرار فيها، خاصة أن اختصاصه في التمريض مطلوب هنا، لكن دون جدوى، هامسا بشيء من الحسرة واللوعة أن ابنه عادل تخلق بقيم المجتمعات الأوروربية التي تكون فكرة استقلال الأبناء بحياتهم، ونسي القيم والمبادئ الراسخة في مجتمعاتنا العربية.
وينهي العرادي حديثه، مؤكداً أنه لم يعد يعارض بقاء ابنه بالخارج، خاصة أنه وجد أوضاعه المادية والأسرية مستقرة، لكنه ضد قسوة القلب أو تبلد المشاعر أحياناً، في حين كما يقول: "أموت وأمهما موتاً بطيئاً بسبب غيابه وعدم سؤاله عنا لفترات متباعدة، وحتى إذا بادرنا نحن بالسؤال فلا نجد المشاعر المتدفقة أو اشتياقهما إلينا، ومبرره في ذلك كثرة المشاغل".
الصبر والاعتدال
تشير أم يوسف، مديرة حضانة وأخصائية نفسية إلى أن ابنها سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الطب، ما جعلها تشتاق إليه كثيراً، وحتى وسائل الاتصال الحديثة لم تعوضها عن وجوده جسداً وروحاً بين أحضانها، فتطمئن إليه كبقية الأمهات اللواتي يعيش أبناؤهن معهن، وكلها أمل في عودته إلى البحرين قريباً، بعد إنهاء دراسته وتحقيق طموحاته، لافتة إلى أن قدر الوالدين الصبر على اغتراب أبنائهم بسبب تحصيل علمي عال، يفتح لهم آفاقا مستقبلية، ومؤكدة أنه من واجب الآباء عدم الوقوف ضد طموحات أبنائهم.
ونبهت أم يوسف بحكم أنها أخصائية نفسية إلى أمرين، الأمر الأول يتعلق بالأبناء، حيث حذرت من جحود بعض الأبناء، حيث يهملون التواصل مع أهلهم، إلى حد أنهم لا ينقطعون نهائيا عن أسرهم، فلا سلام ولا كلام، وهذا له انعكاسات عميقة حتى في نفوس الأبناء أنفسهم، ولا يقدمون إليهم مساعدات مالية تعينهم في حاجات ضرورية، وتحمل عنهم مصاريف الحياة أو العلاج إذا كانوا من المسنين ويعانون الشيخوخة. واما الأمر الثاني،
فيتعلق بالآباء، حيث تجد كثيرا منهم يقفون دون استقلال أبنائهم وبناتهم عنهم ولا يقبلون أنهم بتطور الأجيال.
وشددت على التوازن والاعتدال وعدم التطرف في المشاعر الحالمة ولا المشاعر المحبطة، ونبهت إلى أن اعتدال المشاعر والتعقل من جانب الأمهات والآباء مطلوب، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الاعتدال لدى الأبناء في طموحاتهم التي تتحول في بعض الأحيان إلى هوس قاتل، يصطدم بواقع صعب، فلا يتحقق الحلم وتنكسر النفوس، ويتفكك ترابط الأجيال. وعلى الأبناء المغتربين بمزيد من الحنان والرأفة تجاه آبائهم وأمهاتهم.
عاطفة الأمهات
وعن التحليل النفسي للظاهرة يشير د. محمود فتحي، رئيس قسم علم النفس في كلية الآداب- جامعة الفيوم، إلى أن الأمهات والآباء يختلفون في التعامل مع تلك المشكلة من حيث قدرتهم على الصبر وتحمّل فراق أبنائهم لشهور أو لسنوات، لأن هناك من يستطيع الصبر ومنهم من لا يستطيع، وهذه فروق فردية لا يمكن أحداً تعميمها.
ويضيف أن من الطبيعي أن تكون عاطفة الأمهات تجاه اغتراب أولادهن أقوى من عاطفة الآباء، ولهذا تكون معاناتهن النفسية أكبر، وهذا يتطلب تصبيرهن من طريق التواصل الدائم مع الأولاد عبر وسائل الاتصال، وكذلك أن يقلل الأبناء من فترات الاغتراب عن الوطن قدر الإمكان، صوناً لنفسية الأهل، وكل ابن مغترب أعلم بنفسية أبويه وقدرة كل منهما على الصبر على اغترابه.
وقيل لأعرابي:كيف ابنك؟قال:هو عذاب رعف به الدهر، وبلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب عليها الشكر.
حكاية الأبناء المغتربين تطول من بداياتها إلى نهايتها.. وبين البدايات والنهايات حكايات يرويها من عاني بُعْدَ الأبناء، وألم الفراق، وكثرة الاشتياق، يسافر الأبناء مع أحلامهم للعلم والمعرفة وللعمل والشغل، ويغدو الآباء مع آلامهم وانتظاراتهم، وتتسع الفجوات وتزداد المعاناة إذا تجاهل الأبناء في غربتهم السؤال عن الآباء والأمهات، وانقطعت الصلة بالأرحام. وتقصر المسافات بوسائل الاتصال الحديثة، إذا رغب الأبناء في السؤال عن صحة الآباء وعبروا عن ولاء للأوطان. وفي غياب السؤال تزداد المعاناة.
"الوطن" تبحث الوجه الآخر للمعاناة.. حكايات لا تنتهي مع المعاناة.. لآباء وأمهات من البحرين والأردن وتونس ومصر، اكتووا بنار المعاناة بعد آبنائهم المغتربين وذاقوا مرارة ابتعادهم عنهم، وتقبَّلوا الواقع المؤلم على مضض.. مكرهين أو مختارين.. فللضرورة أحكام..
ونبدأ الحكاية من البحرين..
الغربة كربة
تروي آمنة منصوري وهي بحرينية وموظفة ببنك، تجربتها مع سفر أولادها إلى الخارج قائلة: "أترك لأولادي حرية الاختيار، حتى أن بعضهم قرر استكمال دراسته في الخارج، فابنتي سناء حصلت على رسالة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من ماليزيا، وأنهى أحمد ابني الدكتوراه في جامعة عين شمس مصر، وقد شعرت بالشوق الكبير إليهما أثناء سفرهما في فترة متقاربة جدا، لأنني كنت أحب أولادي كثيراً".
وتضيف منصوري: في الحقيقة كنت أفضّل بقاءهما إلى جانبي، لكن مع عدم وجود دراسات الدكتوراه بالبحرين في اختصاصهما، تحملت ألم الفراق ولم أشأ أن أقف ضد مصلحتهما، علماً أنني أعاني بعدهما عني فالغربة كربة، ولكن أتحمل من أجل سعادتهما".
التواصل الذكي
في البداية تتحدث أم محمود وهي معلمة رياض أطفال من تونس ومقيمة بالبحرين عن معاناتها مع اغتراب ابنتها الكبرى، قائلة: "لي ثلاثة أبناء، ولد وبنتان، أنا وزوجي أبو محمود نحترم جداً خياراتهم التعليمية، فلم نعارض رغبة ابنتي الكبرى "غفران" بعد نجاحها في التوجيهي في إتمام دراستها بفرنسا، ولم نصدها عن طموحها، وبعد جلسة مناقشة لآفاق الدراسة هناك، لم نمانع، خاصة بعد أن وجدنا لها الجامعة المناسبة لاختصاص "إدارة الأعمال والتسوق الإلكتروني"، ومقرراتها الأساسية بالإنجليزية". وتضيف أم محمود في الفترة الأولى تقبلت بعدها عني، وكانت وسائل الاتصال الذكي تقربنا.. خففت كثيراً من ألم الاغتراب بيني وبين ابنتي، فقد حددنا يوميا موعدا للتواصل المباشر عبر تقنية الفيديو.. ولكن بعد الشهر الأول بدأت تظهر على وجهها علامات الشحوب على وجهها.. وانشغلت لوضعها".
انشغال دائم
وتشير مبروكة محمد وهي ممرضة متقاعدة إلى أنها تشعر بألم الفراق لالتحاق ابنتها الصغرى وابنها إلى الخارج بزوجها أبو عبدالله مهندس البترول الذي سافر قبل سنة في بعثة عمل إلى إحدى الدول الخليجية، رغم أنها كانت سعيدة لتمتع ابنتها بالاستقرار العائلي، ولحصولها على وظيفة محترمة هناك، وكانت سعيدة بخلاص ديونها، وبشرائها فلة فخمة.
وتضيف مبروكة محمد: "وسائل الاتصال الحديثة، وزياراتي الدورية لها، خاصة بعد أن رزقها الله بمولود ثان، خففت كثيراً من ألم الاغتراب بيني وبين ابنتي، حيث كنا نتواصل بصفة يومية، للإطمئنان عنها وعن زوجها وابنيها، وهذه نعمة من الله في التخفيف من الشعور بالاغتراب بين الآباء والأمهات من جانب، والأبناء والبنات المسافرين إلى الخارج من جانب آخر". وتستذكر مبروكة محمد تجربة سابقة لابنتها البكر التي سافرت إلى بلد أوروبي صحبة زوجها في ثمانينات القرن الماضي، في ظل وسائل التواصل الشحيحة، وقالت كنا نتلقى إشعارا قبل أسبوع من التواصل، يحدد زمان المكالمة الهاتفية لوقت محدود، فلا نكاد نستأنس بالتواصل ومع انقطاع المكالمة يتقطع الفؤاد، وتزداد الهواجس، وأشعر بالقلق الدائم عليها، بصفتي أمّاً لها مشاعر فياضة نحو ابنتاي الوحيدتين.
وتنهي مبروكة محمد حديثها قائلة: "أحلم بعودة ابنتي وأسرتها إلى جانبي، وإلى جانب أختها الكبرى التي أنهت من خمس سنوات تجربتها مع الغربة، وعادت نهائيا إلى البحرين، خاصة أن ظروفي الصحية غير المستقرة، لم تعد تسمح لي بالزيارات الدورية لها".
أقترض أنا ولا يحتاج ابني
أما أبو أنس وهو مدرس أردني، فتحدث يقول: وسائل الاتصال الحديثة لم تعوضنا غياب ابني أنس الذي سافر إلى أوكرانيا لدراسة الطب هناك، ويحكي خاصة معاناة أمه النفسية بسبب سفر ابنها البكر، وغيابه عنها سنة كاملة، أثارها إلى حد اللهج بذكر اسمه يوميا وهو الغائب الحاضر، وحتى أنها تنادي أحد إخوانه باسم "أنس" لا باسمه من كثرة ما جرى اسمه على لسانها. ويتابع أبو أنس قائلا: والحقيقة أن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة لم تستطع تعويضها عن ذلك، لأن الأم هي الأم دوما وأبدا، خاصة إذا كانت مشاعرها حساسة ومكانته متميزة إلى جانب إخوانه، وتتألم لفراق ابنها سواء كان كبيراً أو صغيراً. ويضيف أبو أنس قائلا: الحالات التي ينشغل فيها بالي عن ابني أكثر من أي شيء هو عندما يطلب دعما ماليا ولا يكون معي، كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني، فالولد في غربة ومن دون مال ماذا سيفعل؟ فلا أتردد في طلبه، أقترض من البنك، من زملائي المدرسين، ولا أتركه في حاجة مادية.. ولا في خصاصة.. رغم أني واثق تمام الثقة من انضباط ابني.. واهتمامه بالدراسة. والحمد لله هو الآن تخرج، وتحصل على الدكتوراه.. وصار يشتغل بالأردن.. واقشعت الضائقة المالية، ولكننا ظللنا بعيدين عنه، فنحن مازلنا مقيمين بالبحرين ولا نلتقي إلا مرة أو مرتين في السنة.
جحود وإنكار
يلخص محمد أحمد العرادي، متقاعد من الإعلام، معاناته بسبب سفر ابنه الوحيد عادل للعمل ممرضا بأيرلندا، بقوله: صدق القائل "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، سافر ونسي أن له أباً وأمّاً لهما حقوق عليه، وأنهما صاحبا فضل عليه بعد الله في وجوده في هذه الحياة والنجاح فيها".
ويضيف العرادي: للأسف أنا بعيد عن قلب ابني الوحيد المهاجر إلى أيرلندا، خاصةً بعدما حصل على جنسيتها وتزوج هناك واستقر، ولم أره منذ سنوات طويلة، وانشغل بحياته هناك وتركني أعاني وأمه ويلات الفراق والبعد والمرض.
ويضيف: أنا لا أنتظر منه مساعدة أو عوناً، أريد فقط رؤيته ورؤية أبنائه الثلاثة، ولد وبنتين.. أريد منه أن يتصل بأمه على الأقل، يكلمها يطمئنها.. فالمسكينة كلما ذكرته تدمع عيناها ويتفتت كبدها. ويشير العرادي إلى أنه بعد عشر سنوات، حمل زوجته وسافر إليه وحاول إقناعه بالعودة إلى البحرين والاستقرار فيها، خاصة أن اختصاصه في التمريض مطلوب هنا، لكن دون جدوى، هامسا بشيء من الحسرة واللوعة أن ابنه عادل تخلق بقيم المجتمعات الأوروربية التي تكون فكرة استقلال الأبناء بحياتهم، ونسي القيم والمبادئ الراسخة في مجتمعاتنا العربية.
وينهي العرادي حديثه، مؤكداً أنه لم يعد يعارض بقاء ابنه بالخارج، خاصة أنه وجد أوضاعه المادية والأسرية مستقرة، لكنه ضد قسوة القلب أو تبلد المشاعر أحياناً، في حين كما يقول: "أموت وأمهما موتاً بطيئاً بسبب غيابه وعدم سؤاله عنا لفترات متباعدة، وحتى إذا بادرنا نحن بالسؤال فلا نجد المشاعر المتدفقة أو اشتياقهما إلينا، ومبرره في ذلك كثرة المشاغل".
الصبر والاعتدال
تشير أم يوسف، مديرة حضانة وأخصائية نفسية إلى أن ابنها سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الطب، ما جعلها تشتاق إليه كثيراً، وحتى وسائل الاتصال الحديثة لم تعوضها عن وجوده جسداً وروحاً بين أحضانها، فتطمئن إليه كبقية الأمهات اللواتي يعيش أبناؤهن معهن، وكلها أمل في عودته إلى البحرين قريباً، بعد إنهاء دراسته وتحقيق طموحاته، لافتة إلى أن قدر الوالدين الصبر على اغتراب أبنائهم بسبب تحصيل علمي عال، يفتح لهم آفاقا مستقبلية، ومؤكدة أنه من واجب الآباء عدم الوقوف ضد طموحات أبنائهم.
ونبهت أم يوسف بحكم أنها أخصائية نفسية إلى أمرين، الأمر الأول يتعلق بالأبناء، حيث حذرت من جحود بعض الأبناء، حيث يهملون التواصل مع أهلهم، إلى حد أنهم لا ينقطعون نهائيا عن أسرهم، فلا سلام ولا كلام، وهذا له انعكاسات عميقة حتى في نفوس الأبناء أنفسهم، ولا يقدمون إليهم مساعدات مالية تعينهم في حاجات ضرورية، وتحمل عنهم مصاريف الحياة أو العلاج إذا كانوا من المسنين ويعانون الشيخوخة. واما الأمر الثاني،
فيتعلق بالآباء، حيث تجد كثيرا منهم يقفون دون استقلال أبنائهم وبناتهم عنهم ولا يقبلون أنهم بتطور الأجيال.
وشددت على التوازن والاعتدال وعدم التطرف في المشاعر الحالمة ولا المشاعر المحبطة، ونبهت إلى أن اعتدال المشاعر والتعقل من جانب الأمهات والآباء مطلوب، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الاعتدال لدى الأبناء في طموحاتهم التي تتحول في بعض الأحيان إلى هوس قاتل، يصطدم بواقع صعب، فلا يتحقق الحلم وتنكسر النفوس، ويتفكك ترابط الأجيال. وعلى الأبناء المغتربين بمزيد من الحنان والرأفة تجاه آبائهم وأمهاتهم.
عاطفة الأمهات
وعن التحليل النفسي للظاهرة يشير د. محمود فتحي، رئيس قسم علم النفس في كلية الآداب- جامعة الفيوم، إلى أن الأمهات والآباء يختلفون في التعامل مع تلك المشكلة من حيث قدرتهم على الصبر وتحمّل فراق أبنائهم لشهور أو لسنوات، لأن هناك من يستطيع الصبر ومنهم من لا يستطيع، وهذه فروق فردية لا يمكن أحداً تعميمها.
ويضيف أن من الطبيعي أن تكون عاطفة الأمهات تجاه اغتراب أولادهن أقوى من عاطفة الآباء، ولهذا تكون معاناتهن النفسية أكبر، وهذا يتطلب تصبيرهن من طريق التواصل الدائم مع الأولاد عبر وسائل الاتصال، وكذلك أن يقلل الأبناء من فترات الاغتراب عن الوطن قدر الإمكان، صوناً لنفسية الأهل، وكل ابن مغترب أعلم بنفسية أبويه وقدرة كل منهما على الصبر على اغترابه.
وقيل لأعرابي:كيف ابنك؟قال:هو عذاب رعف به الدهر، وبلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب عليها الشكر.