حاورها قبل أن تموت – صبري محموددعاني صاحبي لزيارة جنته، حيث مزارع النخيل في الواحة الطيبة، لكى يطلعني على الإنتاج الوفير من الرطب في أرضه، ومهارته في توفير الماء والعناية بالنخيل، وغيرها من الأمور التي اعتدنا الكتابة عنها في الصحف العربية بفخر واعتزاز، وبينما كان صاحبي يدخل جنته تبدت لي بقعة سوداء قاحلة وسط الجنان الخضراء.. ووجدت نفسي عن غير قصد اتجه ناحية السواد، ثم سمعت أنينها من بعيد يناديني.. فتحركت إليها هائماً ووضعت يدي على جذعها النحيل، فاهتزت برفق وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ثم سقطت جريدة من جريدها العالي فشهقت كأنما قطعت يدها، ثم مالت نحوي وظفرت بأسي من الألم.. وتكلمت النخلة فكان هذا الحوار:قالت بصوت حزين: تقدم يا بني ولا تخش على رزقك.. أدخل علينا بقدمك اليمني وقل: السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. أنتم السابقون ونحن بكم إن شاء الله لاحقون.* سألتها من أنت يا أمي؟- جاوبت بصوت خافت يغلب عليه الأنين: أنا أقدم شجرة زرعها الإنسان، و كرمني ربي عز وجل، وذكرني في جميع الكتب السماوية، وأوصاكم بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم"... أنا خبز البلاد وروح الحياة وعماد التجارة..* ماذا أصابك هل انت ظمآنة؟ هل أحضر لك ماء؟- التقطت النخلة المتألمة نفساً ضعيفاً فطار مع الريح بعض غبار تراكم على جريدها الذابل، ثم قالت: لم أشكُ يوماً قلة الماء، فقليل من قطرات الغيث يرويني، وهذه الواحة الندية ما شكت يوماً من ضعف المياه، لقد رأيت أجدادكم يحفرون أمامي على مسافة شبر واحد فتتدفق ينابيع الخير، ورأيت آباءكم يحفرون على مسافة ذراع من الأرض فتجري الجداول وسط النخيل.. واحتنا العربية يا بني خيرها وفير وماؤها عليل، ولم تشكُ أرضنا هنا يوماً من قلة المياه، وحكام البلاد وأصحاب الرأي والقرار فيها لم يقصروا في تعمير الواحة وتنميتها بالمشروعات.. ألا ترى بعينك أعمدة الكهرباء تنير ليل المنطقة، انظر إلى الطريق الذي انطلقت عليه بسيارتك وكيف شق الدروب حتى وصل بك إلى باب المزرعة، كل هذه النعم يا ولدي لم يحلم بها أجدادك الذين تورمت أقدامهم من السير إلى هنا على الرمال الساخنة، انظر إلى ماكينات رفع المياه كيف تروي الحقول من حولنا، وانظر إلى جيراني كيف زرعوا الخضروات تحت ظلال النخيل، وتحولت الرمال الصفراء إلى جنة خضراء تفيض بالخير، لا تنظر تحت قدميك في المقبرة التي جمعتني مع شقيقاتي في تلك البقعة السوداء.. ثم تنهدت النخلة متألمة. نعم ظمآنة يا بني.. ولكن الماء لن يحييني.* زادت حيرتي، ورحت أدور حول النخلة المكلومة فوجدت دوائر سوداء ظهرت جلية تغمر جسدها كله.. فقلت لها: لعلك مريضة يا أمي.. هل أصابتك سوسة النخيل؟- جاءتني سوسة النخيل يا ولدي ولكنها لم تقتلني.. ضربتني السوسة الحمراء وقت كان عمري 5 سنوات، وأصابت شقيقاتي واعمارهن بين 3 و10 سنوات، لأننا في هذه الأعمار وجبة طرية جداً للحشرة، فتضع البيض في أجسادنا. وما زلت أذكر يوم أُصيبت إحدى شقيقاتي هنا.يومها رأينا السوسة تضع ما بين 200و300 بيضة في جسد شقيقتي خلال ثلاثة أشهر فقط، رأينا البيض في أكثر من موضع وظهر جلياً على جذع شقيقتي وبين قواعد الجريد، ولم ينتبه صاحب المزرعة إلى صراخ شقيقتي، وفقس البيض وخرجت منه يرقات صغيرة نخرت جسدها الطري، وحفرت السوسة لنفسها نفقاً في جسم شقيقتي، ثم تجاورت الأنفاق وتفتحت على بعضها، وعندما التفت صاحبنا إلى العلامة الزرقاء التي وضعها خبراء الزراعة كإشارة على المرض فزع وأصابه حزن شديد وبدأ رحلة علاج بالحقن في موضع الإصابة، ورغم مرض شقيقتي ظلت تطرح رطبها كل عام دون كلل حتي فاضت روحها وسقطت هزيلة، فجزها العامل قطعاً صغيرة ثم حرقها ودفنها في الرمال، وظلت المزرعة طاهرة من سوسة النخيل سنوات طوال.* إذا كان الوقت قد فات بالنسبة لشقيقاتك، فربما ينقذك الطبيب؟- قالت: مريضة يا ولدي.. ولكن لن ينفعني الطبيب، لمعت الشيخوخة على وجهي رغم أني لم أتجاوز العشرين، واختفت الجنة الخضراء من تحتي بعد وفاة صاحب المزرعة، وعبثت بنا يد الإهمال والجهل، فضاعت النضرة التي كنت أفخر بها عندما غابت يد النعيم، وخف وزني وضعف قوامي النحيف، وذبل الجريد وهش الزعف، وزاد الظمأ وجفت العروق.. وأصابنا المرض واحدة بعد أخرى.* سألتها.. ولماذا لم يتخيروا النخيل المصاب ويقطعوه أولاً بأول حتى لا تنتشر العدوى بينكم؟- خلع النخلة المصابة من جذورها يتكلف الكثير من المال.. وقليل من أصحاب المزارع يخلع النخل المصاب ويهتم بتطهير مزرعته، والكثير منهم يترك النخلة ما دامت واقفة ويستفيد من رطبها ما دامت تطرح، ونحن لا نبخل عليهم فنطرح الرطب ما دامت فينا الحياة.* وأنت ماذا جرى لك ولماذا أنت منكسرة هكذا وهل هذه مقبرة؟- فقالت: رويداً يا بني.. قصتي يطول شرحها فهل لديك الشجاعة لكي تكتب ما أرويه لك.. أم ستفعل كما فعل من جاء قبلك.. دمعت أعينهم ثم ذكروا الله كثيراً وحوقلوا.. ثم غابوا عني ولم يفعلوا شيئاً.* فقلت لها: تكلمي يا أمي وسوف أكتب.. ماذا فعلوا بك؟- فقالت أصابتني يد الإهمال يا ولدي فضربت بالشلل ظهري، ومات في قلبي التمر، ونشف جريدي، وجف الماء في عروقي، ومنذ وفاة صاحب المزرعة تركنا أولاده فريسة للجوع والعطش ينهش في أجسادنا السوس في حفل تعذيب يومي، جفت حلوقنا يا ولدي من العطش، والمزرعة التي كانت جنة خضراء يستظل بظلها الناس صارت - كما ترى - مقبرة جماعية لنا، وسقطت شقيقاتي أمام عيني من الألم واحدة بعد أخرى، وصرخنا حتى تعبنا من الصراخ وضجر من قبح ما فينا الجيران، ونالهم من الأذى الكثير، فزحف السوس الأحمر من أرضنا إلى النخيل الطري في المزارع المجاورة، ونحن لا نملك من الأمر شيئاً.* شعرت أن النخلة قد حان أجلها وجاء وقت الوداع.. فقلت لها.. هل لديك وصية؟- فقالت أكتب وصيتي يا ولدي، أخبرهم قصتي فلا خير فيك إن لم تكتبها ولا خير فيهم إن لم ينشروها، أكتب عن أولئك الذين يرثون جنات النخيل من آبائهم وأجدادهم خضراء طرية تفيض بالخير، ثم يهملونها وينشغلون عنها بمشروعاتهم ثم يتركون مزارعهم أَعجاز نخلٍ خاوِية، فلا هم باعوها لغيرهم ليرعانا.. ولا حافظوا علينا كي يردونا لأولادهم كما أخذونا.. وإنما حبسونا طمعاً في زيادة سعر الأرض وحباً للمال.. اكتبها ولا تخشَ أن يطردوك من عملك، إنما تكتب عن مقبرتنا السوداء وتريد لأرضنا الطيبة الخير، اكتب عني وعن شقيقاتي اللائي سقطن أمامي في ريعان الشباب.اكتب شكواي إلى أولي الأمر منكم.. أن راقبوا أصحاب مزارع النخيل، فان لم يوفونا حقنا من الرعاية فلينزعونا منهم رحمة بنا، ثم يعوضوهم عن أرضهم - إن شاؤوا -، لا نريد أن نكون مقبرة سوداء وسط الجنان الخضراء، تنتقل منا العدوى والأمراض إلى الورود والرياحين.انتهت النخلة من وصيتها.. وسرت نسمة خفيفة في الأجواء فلم تتحملها، فتمايلت عمتي وسقطت بجوار شقيقاتها في مقبرة سوداء كانت قبل عقود جنة خضراء.