لكن العامية الآن، كان يقابلها، في عصور أقدم، ما عرف باللحن، وهو الخطأ في ضبط الكلمة إعرابياً، حيث كان اللحن مثل الكفر، يقول صاحبه "أستغفر الله" لو وقع فيه. إلا أن اللحن كان ظاهرة منتشرة في مختلف أرجاء المنطقة العربية، في الشام والعراق والجزيرة العربية واليمن وصولاً إلى الأندلس.
وانبرى علماء العربية، منذ زمن بعيد، في وضع مصنفات تعنى باللحن، كلمة كلمة ولفظاً لفظاً. وكان عدد الكتب العربية التي وضعت في اللحن، كبيراً إلى الدرجة التي تم التعرف فيها إلى حقيقة مؤكدة، وهي أن التكلم بالفصحى، بين عامة الناس، كان أمراً نادر الحدوث، أو مقتصراً على النخبة، حكاماً ونحاة وشعراء.
وسعى كثير من علماء العربية، حسب تقرير نشرته "العربية نت"، للوقوف على أصل الفصحى، فلم يفلحوا في ذلك، لأن أصل الفصحى لا يظهر إلا في لغة القرآن الكريم، ثم ما تم تناقله من الشعر الجاهلي وما بعده. ولم يتمكن أي عالم لغوي من العثور على أي نص نحوي يفيد بأصول الفصحى، إلا بعد ظهور الإسلام، بعقود. فيما اللقى الأثرية التي تم العثور عليها، كنص "النمارة" الذي يعود تاريخه إلى العام 328 للميلاد، كان مجرد كلمات دلت على أصلها العربي الخالص، خاصة في استعمال "ال" التعريف.
المكان الأول في اليمن
كتب في اللحن، قديماً، والأخطاء اللغوية، حديثاً، ولا يزال، ولن ينقطع. ذلك أن الفصحى نخبة اللسان العربي العالي، لا يمكن التعامل معها إلا بضوابط. لكن رغم شيوع حالة اللحن في اللغة العربية، قديماً، فإن ثمة مدناً قيل إنها بقيت تتحدث اللغة العربية الفصحى حتى وقت قريب.
وأشهر مدينة أو مكان قيل إنه لا يزال يتحدث الفصحى، منطقة جبل عكاد والعكوتين المطلة على منطقة الزرائب في اليمن. وأول من قال إن هذا المكان لا يزال يتكلم باللغة العربية الفصحى، هو الشاعر اليمني نجم الدين عمارة (515-569) للهجرة، في كتابة "المفيد في أخبار زبيد".
وبحسب ما طالعته "العربية.نت" في كتب اللغة ومعجماتها، تلقف ياقوت الحموي صاحب "معجم البلدان" و"معجم الأدباء"، والمتوفى سنة 626 للهجرة، ما قاله عمارة اليمني، فعاود التأكيد أن الفصحى ما زالت سارية في عكاد اليمنية، حتى زمنه هو أيضاً.
بعد عمارة وياقوت، جاء الفيروز آبادي، صاحب "القاموس المحيط" فضمن معجمه ما قاله سابقاه من أن الفصحى ما زالت سارية هناك، في عكاد.
الناقل الأخير لقولة إن عكاد، ما زالت تتكلم الفصحى، كان ابن زبيد أيضاً، صاحب معجم "تاج العروس" المشهور، وهو مرتضى الزبيدي، والمتوفى سنة 1205 للهجرة.
المكان الثاني في شمال إفريقيا
ثم تفاعلت القضية إلى أقصى حد، في السنوات اللاحقة، فمسألة بقاء مدينة ما على استعمال الفصحى العالية، ليست بالأمر الهين، فقام عبدالرحمن الكواكبي صاحب "طبائع الاستبداد" بزيارة إلى عكاد وزبيد، ثم أخبر نظراءه المصريين أنه تأكد من استعمال أهل المنطقة المذكورة، للفصحى، إنما فاجأهم بقوله إنهم كانوا يسكّنون أواخر الكلم، على خلاف الإعراب الذي يتطلب تحريك الكلم ليكون فصيحاً ودقيقاً.
أما المدينة الثانية التي قيل إنها ما زالت على الفصحى، فهي في شمال إفريقيا، تبعاً لما ورد في كتاب "المعسول" للعلامة محمد مختار السنوسي، والمتوفى سنة 1963 ميلادية. فقد تحدث عن زيارة إلى منطقة "تامانارت" في "أكرض" و"القصبة"، مشيراً إلى أن أغلب قاطني المكان من الصحراء السوسية، من أصول عربية ومن زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. فقال عنهم "وجلهم يتكلم بالعربية الفصحى السليقية، لهذا العهد القريب".
المكان الثالث في المملكة العربية السعودية
مكان ثالث في الأرض العربية، ارتبط ببقاء الفصحى، على ما ذكره العلامة فؤاد حمزة، في كتابه المشهور "قلب جزيرة العرب" والذي كان أحد مصادر العلامة العراقي جواد علي في مصنفه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
وذكر حمزة، في معرض تعريفه بالقبائل العربية التي تقطن المملكة العربية السعودية، أن قبيلة "فَهم" مشهورة بالفصاحة، "ويقال إنهم ما زالوا محافظين على لغة قريش التي كانت في صدر الإسلام".
وأضاف حمزة، أنه قام بالتحادث، مباشرة، مع بعض أبناء "فَهم" فوجد لهجتهم "أقرب اللهجات الحاضرة إلى العربية الفصحى"، كما قال في كتابه الصادر في ثلاثينات القرن الماضي.