بسبب أزمة كورونا الحالية التي تجاوز عدد إصاباتها 18 مليونا وقارب عدد وفياتها 700 ألف، دخلت على حياة كثير من البشر العديد من العادات والمصطلحات كالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات والحجر الصحي، كما اضطروا لمواجهة مشاكل أخرى كنقص الغذاء وفقدان الوظائف وتراجع المداخيل.لكن كل هذه الأزمات لم تكن جديدة على البشرية، فقد اضطر الإنسان خلال الأزمات الصحية السابقة كالطاعون الأسود بالعصور الوسطى والإنفلونزا الإسبانية بالقرن الماضي لتحمل ظروفا مشابهة وربما أسوأ بكثير من ظروف أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد خاصة مع غياب التقدم العلمي والتكنولوجي الذي نتمتع به في يومنا الحاضر.وفي الفترة الحالية، يؤكد المؤرخون أساساً على أربعة أوبئة شكلت منعطفاً بتاريخ البشر وغيرت حياتهم حيث واجه الجميع أثناءها ويلات غير مسبوقة أسفرت عن سقوط أعداد هائلة من الضحايا.

الطاعون الأسود

يصنف الطاعون الأسود كأسوأ وباء من حيث عدد الوفيات بتاريخ البشرية. فبعد ظهوره بآسيا، في الصين حسب العديد من المصادر، خلال القرن الرابع عشر، انتقل هذا الوباء نحو منطقة القرم عام 1347 قبل أن يحل ببقية أرجاء أوروبا وشمال إفريقيا ويتسبب خلال بضع سنوات في وفاة ما بين ثلث وثلثي الأوروبيين (ما بين 75 و200 مليون شخص). وعاود الظهور بين الفينة والأخرى طيلة القرون التالية بالمدن الأوروبية حاصداً في طريقه مزيداً من الأرواح. ووفق المؤرخين المعاصرين، تعد نسبة الوفيات بسبب كورونا متواضعة جداً مقارنة بما تسبب به الطاعون الأسود.واعتمدت بعض المدن كميلانو الإيطالية على بعض قواعد التباعد الاجتماعي فحققت جانباً من النجاح في مجابهة المرض حيث كانت نسبة الوفيات بها منخفضة مقارنة بسائر المدن. كما عمدت مدينة دوبروفنيك (Dubrovnik)، بكرواتيا حالياً، لفرض شكل مبكر من أشكال الحجر الصحي فأجبرت الوافدين الجدد على المكوث لنحو 40 يوماً بإحدى الجزر القريبة تزامناً مع ظهور موجة وباء بها عام 1377.

طاعون جستنيان

وقبل 1500 عام تزامناً مع فترة صعود الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور جستنيان الأول، عصف وباء الطاعون الدبلي، الذي سببته بكتيريا يرسينيا الطاعونية التي كانت بدورها وراء الطاعون الأسود، بالقسطنطينية. إلى ذلك، أنهى الوباء بشكل مؤقت حرب البيزنطيين والساسانيين كما أصيب به الإمبراطور جستنيان الأول وشفي وحمل هذا الوباء اسمه لارتباطه بفترة حكمه.ومع تزايد عدد الوفيات بالقسطنطينية، لجأ الأهالي لدفن ذويهم بشكل سريع وحمل كثيرون أساور نقشت عليها أسماؤهم أملاً في التعرف عليهم في حال وفاتهم بأماكن بعيدة عن منازلهم. أيضاً، تحدّث مؤرخو تلك الفترة عن انتشار الجثث بشوارع القسطنطينية كما أكدوا على وفاة ما لا يقل عن 5 آلاف شخص يومياً أثناء ذروة المرض. وطيلة سنوات الوباء، أسفر طاعون جستنيان عن وفاة ما يزيد عن 25 مليون شخص.

كوكوليزتلي

وقبل 500 عام، عرفت المكسيك انقلاباً اجتماعياً وثقافياً تزامن مع قدوم الإسبان الذين رافقتهم أمراض عديدة دخيلة افتقر السكان الأصليون لمناعة ضدها كالجدري والحصبة. إضافة لذلك، سجّل القرن 16 ظهور وباء غريب قتل كثيرين ولقبه السكان الأصليون بكوكوليزتلي (cocoliztli). وبكتاباته، تحدّث الراهب الإسباني برناندينو دي ساهايغون (Bernardino de Sahagún) عن 3 موجات لهذا الوباء. ومع بلوغه إسبانيا الجديدة عام 1545 أصيب الأخير بالمرض وشفي منه. وعام 1574 قدّم دي ساهايغون وصفاً دقيقاً للموجة الثانية فتحدث عن أعداد هائلة من الموتى يومياً وأكد وفاة أوروبيين وأفارقة به.وبشكل مشابه نوعاً ما للأزمة الغذائية التي سببتها جائحة كورونا، تراجعت كمية الغذاء بمناطق إسبانيا الجديدة بسبب ارتفاع عدد الوفيات وغياب اليد العاملة بالأراضي الفلاحية، ما أسفر عن تفشي المجاعة ووفاة كثيرين جوعاً. وبسبب موجات كوكوليزتلي تحدث المؤرخون عن وفاة عشرات الملايين بإسبانيا الجديدة.

الإنفلونزا الإسبانية

وبالقرن الماضي، واجه العالم ما بين عامي 1918 و1920 جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي تجاوز عدد ضحاياها ضحايا الحرب العالمية الأولى بأضعاف، حيث حصد هذا المرض أرواح نحو 50 مليون شخص بينما قدّر عدد الإصابات بحوالي 500 مليون إصابة. وبسبب سياسة حجب المعلومات والتعتيم الإعلامي المنتشرة بأوروبا في زمن الحرب العالمية الأولى، ارتبط اسم هذه الجائحة بإسبانيا التي كانت دولة محايدة وقدمت أرقاماً هائلة عن حجم ضحاياها.وتماماً كما يحصل اليوم مع أزمة كورونا، عرفت المدن والمناطق التي فشلت في فرض سياسة الإغلاق والتباعد الاجتماعي بشكل مبكر أعداداً هائلة من الإصابات. وقد شهدت فيلادلفيا الأميركية أواخر أيلول/سبتمبر 1918 استعراضاً محلياً تزاحم خلاله 200 ألف شخص، أسفر خلال الأيام القليلة التالية عن ارتفاع مهول في أعداد الإصابات والوفيات بها لتشهد بذلك الولايات المتحدة خلال تشرين الأول/أكتوبر 1918 أسوأ شهر بتاريخها توفي خلاله 200 ألف أميركي بسبب الإنفلونزا الإسبانية. وببقية دول العالم، لعب التعتيم الإعلامي وحركة تنقل الجنود بالحرب العالمية الأولى الدور الأهم في نشر العدوى بين مختلف الدول.