سبقهل كانت الجزيرة العربية جنة خضراء في قديم الزمان؟.. هذا التساؤل يطرح بين الحين والآخر في الأوساط العلمية والثقافية، وبين عامة الناس دون إجابة شافية، إلا أن الاكتشافات الأثرية الحديثة التي أعلنت عنها هيئة التراث في دراسة علمية نشرتها المجلة العلمية المرموقة "Nature" أظهرت ما يدعم ذلك الاعتقاد بشدة.

فقد أظهرت الاكتشافات الأثرية شمال المملكة، عن وجود دلائل على هجرات بشرية مبكرة من قارة إفريقيا إلى الجزيرة العربية بدأت قبل نحو 400 ألف سنة وتكررت على مراحل زمنية متعددة خلال 300 ألف، و200 ألف، و130 - 75 ألفاً و55 ألف سنة مضت.

كما تضمنت الاكتشافات التي اكتشفت في عدة مواقع شمال المملكة، منها موقع خل عميشان بالنفود الكبير قطعاً من عظام حيوان فرس النهر، وحيوانات أخرى من فصيلة البقريات والتي عاشت على مدى فترات زمنية متعددة، مما يؤكد وجود بيئة مطيرة غنية بالمسطحات المائية، والغطاء النباتي الكثيف في شمال الجزيرة العربية، وهو ما يتطابق إلى حد كبير مع أحوال المناخ السائدة في شمال إفريقيا.

جنة من الواحات الخضراء

وتدعم تلك النوعية من الاكتشافات الفرضية القائلة بأن الجزيرة العربية كانت جنة من الواحات الخضراء قبل أكثر من 100 ألف سنة، حيث كشفت الدراسات التي أجرتها البعثة السعودية البريطانية ضمن مشروع الجزيرة العربية الخضراء في وقتٍ سابق، عن أدلة علمية تؤكد وجود البحيرات والأنهار والغابات بأنحاء الجزيرة، مما ساعد على إنشاء الكثير من الحضارات حولها بوقت لاحق.

وبحسب دراسة سابقة نشرها فريق بحثي بريطاني في مجلة "ذا جورنال أوف جيولوجي"، تحت إشراف آش بارتون، الأستاذ بجامعة أوكسفورد البريطانية، فإن المنطقة كانت غنية بالمراعي الخضراء في سالف الأزمان، حيث يصل الموسم المطير إلى شبه جزيرة العرب كل 23 ألف سنة، وذلك لإتاحة المجال للحياة النباتية والحيوانية لكي تزدهر.

ويقول الأستاذ بجامعة أكسفورد في بحثه المنشور الذي يرجع إلى عام 2015، إنه توصل هو وفريقه البحثي إلى أن جزيرة العرب مرت بفترات مختلفة من العصور المطيرة مما أدى إلى ظهور نباتات طويلة، وغابات كثيفة، وهو ما جعلها مكاناً مقبولاً للعيش، مما يؤيد فكرة حدوث هجرة الإنسان الحديث من إفريقيا في وقت مبكر.

ولم يكتفِ "باترون" بالافتراضات النظرية، إذ يشير إلى عثوره على آثار طين وحجارة من قاع النهر تعود إلى 160 ألف عام، وذلك أثناء دراسته لمجاري الأنهار الجافة جنوب شرقي الجزيرة العربية.

وقد عثر علماء الجيولوجيا على دلائل بوجود خمس فترات مطيرة مرت بها منطقة الجزيرة العربية، والتي تدفقت خلالها الأنهار وجرفت معها هذه الحجارة والحصى، بينما استقرت هذه الحجارة عندما جفت الأنهار وانحسرت مياهها.

وقد كانت أولى هذه المراحل المطيرة في الفترة ما بين 160 ألفاً و150 ألف سنة مضت، وأحدثها كان قبل نحو 55 ألف سنة مضت. وكانت كل مرحلة مطيرة تمثل فرصة انتقل خلالها البشر من إفريقيا إلى آسيا.

ويقول "باترون": "السجل البيئي الذي لدي يتطابق تماماً مع سجل الآثار الموجودة بالفعل. وهذه السجلات تشير إلى وجود حركات نزوح وهجرة بشرية إلى شبه الجزيرة العربية".