يقال أن كاترين العظيمة امبراطورة روسيا من عام 1762-1796 المعروفة بطول مدة حكمها ونجاحها في السياسة، والتي وسعت وحدثت الإمبراطورية الروسية، أهدت الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير قصيدة كتبتها بنفسها، وكانت بمنتهى الركاكة والتفاهة، فقد كانت كاترين معجبة بأفكار فولتير، وتعده مصدر إلهام لبعض سياساتها، وكانت بينها وبينه مراسلات لتبادل الأفكار، فلما وصلت القصيدة إلى فولتير وتبين لها مدى ضعفها وركاكتها، أخذ خيوطاً من الحرير وبدأ بحياكة زوج من الجوارب النسائية، ولم تكن لفولتير خبرة في الحياكة، لكنه في النهاية أكمل حياكتها، وظهرت بصورة فظيعة وغريبة، ومع ذلك غلفها وأرسلها إلى الإمبراطورة كاترين العظيمة كهدية، وكتب معها خطاب قال فيه: يا صاحبة الجلالة، لي الشرف بأن أقابل هدية الرجل التي حاكتها يد المرأة، بهدية المرأة التي حاكتها يد الرجل، واقبلوا مني مزيداً من الإجلال والتعظيم.
الهدية والخطاب المرفق معها كانت رسالة لطيفة مبطنة من فولتير، أخبر فيها الإمبراطورة بطريقة غير مباشرة أن كل إنسان يجب أن يشتغل باختصاصه، فهي متميزة في الحكم وإدارة الدولة وهو متميز في الفلسفة والأدب، وكونها معجبة بأفكاره وباختصاصه لا يعني قدرتها على مجاراته أو أنها تدخل في مجال عمله، وكذلك هو، فقدرته على إنتاج الأفكار وأسلوبه في الكتابة لا تسمح له بإنتاج وحياكة أبسط الملبوسات، كما أنها إمبراطورة وهو شاعر، وإذا أرادت أن تهدي له شيئاً فمن المحتمل أن ما ينقصه المال، لكن بالتأكيد لا ينقصه الشعر، فضلاً عن الشعر الركيك.
ربما تجاوز الغربيون هذه العقدة، وأعني عقدة عدم احترام التخصص، لأننا نرى واقعهم والتزام كل ذي تخصص منهم بتخصصه، وعدم خوضه في غيره، بل إنهم تعدوا ذلك إلى الالتزام بالجزئيات، فعالم الفيزياء على سبيل المثال يتحدث ويشتغل في الجزئية التي تخصص بها، ولا يتعداها إلى غيرها، وهذا الأمر بدون شك أحد أهم أسباب تقدمهم، لكننا في العالم العربي عالقون إلى الآن في هذه المشكلة، وهي ليست عند الكل بالتأكيد لكنها تعد واحدة من سمات المجتمعات، والناس فيها على أقسام، قسم منهم عالم وناجح في تخصصه، يعتقد بما أنه تمكن من دراسة الطب أو الهندسة أو الكيماء أو غيرها من العلوم التطبيقية، فباقي العلوم هي أبسط وأسهل، وتخصصه يجعل منه مؤهلاً للحديث في الدين على سبيل المثال، وفي المقابل هناك من علماء الدين يجدون أنفسهم مؤهلين للحديث في التخصصات الأخرى، فقط لأنهم ناقشوا أحكاما تتعلق بتلك العلوم، وفي الواقع كلاهما غير مؤهل للحديث بتخصص غير تخصصه، وقسم آخر فشل في تخصصه ولم يتمكن من العمل به، لكنه بارع في التحقيقات وكشف ملابسات الجرائم، وهو بعيد تمام البعد عن هذا الاختصاص لكنه مولع في مشاهدة أفلام الجريمة، وهذا يؤهله للحديث في تخصص المحققين، أو يتحدث بالطب لأنه رافق والديه المريضين لسنوات طويلة، فتمكن من الطب، وما زاد الطين بلة عند هؤلاء، ما توفر في السنوات الأخيرة من مقاطع على يوتيوب، فوجدنا من يشاهد مجموعة من المقاطع في تخصص وقضية معينة ثم يبدأ بالتنظير على أصحاب الاختصاص.
إذا لم نتعلم احترام التخصص، وعدم الخوض فيما لا نبرع به ولم ندرك خطورة ذلك، فسنكون عائقاً أمام تقدم مجتمعاتنا.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية
{{ article.visit_count }}
الهدية والخطاب المرفق معها كانت رسالة لطيفة مبطنة من فولتير، أخبر فيها الإمبراطورة بطريقة غير مباشرة أن كل إنسان يجب أن يشتغل باختصاصه، فهي متميزة في الحكم وإدارة الدولة وهو متميز في الفلسفة والأدب، وكونها معجبة بأفكاره وباختصاصه لا يعني قدرتها على مجاراته أو أنها تدخل في مجال عمله، وكذلك هو، فقدرته على إنتاج الأفكار وأسلوبه في الكتابة لا تسمح له بإنتاج وحياكة أبسط الملبوسات، كما أنها إمبراطورة وهو شاعر، وإذا أرادت أن تهدي له شيئاً فمن المحتمل أن ما ينقصه المال، لكن بالتأكيد لا ينقصه الشعر، فضلاً عن الشعر الركيك.
ربما تجاوز الغربيون هذه العقدة، وأعني عقدة عدم احترام التخصص، لأننا نرى واقعهم والتزام كل ذي تخصص منهم بتخصصه، وعدم خوضه في غيره، بل إنهم تعدوا ذلك إلى الالتزام بالجزئيات، فعالم الفيزياء على سبيل المثال يتحدث ويشتغل في الجزئية التي تخصص بها، ولا يتعداها إلى غيرها، وهذا الأمر بدون شك أحد أهم أسباب تقدمهم، لكننا في العالم العربي عالقون إلى الآن في هذه المشكلة، وهي ليست عند الكل بالتأكيد لكنها تعد واحدة من سمات المجتمعات، والناس فيها على أقسام، قسم منهم عالم وناجح في تخصصه، يعتقد بما أنه تمكن من دراسة الطب أو الهندسة أو الكيماء أو غيرها من العلوم التطبيقية، فباقي العلوم هي أبسط وأسهل، وتخصصه يجعل منه مؤهلاً للحديث في الدين على سبيل المثال، وفي المقابل هناك من علماء الدين يجدون أنفسهم مؤهلين للحديث في التخصصات الأخرى، فقط لأنهم ناقشوا أحكاما تتعلق بتلك العلوم، وفي الواقع كلاهما غير مؤهل للحديث بتخصص غير تخصصه، وقسم آخر فشل في تخصصه ولم يتمكن من العمل به، لكنه بارع في التحقيقات وكشف ملابسات الجرائم، وهو بعيد تمام البعد عن هذا الاختصاص لكنه مولع في مشاهدة أفلام الجريمة، وهذا يؤهله للحديث في تخصص المحققين، أو يتحدث بالطب لأنه رافق والديه المريضين لسنوات طويلة، فتمكن من الطب، وما زاد الطين بلة عند هؤلاء، ما توفر في السنوات الأخيرة من مقاطع على يوتيوب، فوجدنا من يشاهد مجموعة من المقاطع في تخصص وقضية معينة ثم يبدأ بالتنظير على أصحاب الاختصاص.
إذا لم نتعلم احترام التخصص، وعدم الخوض فيما لا نبرع به ولم ندرك خطورة ذلك، فسنكون عائقاً أمام تقدم مجتمعاتنا.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية