القراءة المتأنية لخطاب باراك اوباما الأخير، قبيل مغادرته البيت الأبيض، تكشف عن نظرة متشائمة رسمها لمستقبل بلاده. فبعد ثماني سنوات أمضاها في سدة الرئاسة، أعطى صورة قاتمة للتحديات التي تواجه أمريكا، أبرزها سوء توزيع الثروة، حيث كشف أن 1 % من سكان الولايات المتحدة يملكون الثروات، فيما باقي الناس يعيشون على «الفتات». واعتبر ذلك معضلة ربما تُعرض مستقبل البلاد لخطر التفكك، إذا لم تتم معالجتها عن طريق اقتسام الثروات بشكل أكثر عدلا، مع التوصل إلى «ميثاق اجتماعي» جديد.
سوء توزيع الثروة
قال اوباما ان بلاده مرت بظروف عصيبة كادت تعرضها للانهيار، في مطلع القرن الحادي والعشرين. وعزا ذلك إلى الوضع العالمي، وانعدام المساواة نظراً لسوء توزيع الثروة، والتغيير السكاني، وشبح الإرهاب. وقال إن هذه العوامل هددت أُسس النظام السياسي القائم. وأسهب في تشخيص المعضلة الاقتصادية قائلاً إن مستقبل البلاد يعتمد على التوصل إلى حلول مناسبة، لأن النظام سيتعطل «إذا لم يشعر كل فرد أن له فرصة اقتصادية». مضيفاً أن «انعدام المساواة الصارخ سيؤدي الى تراجع المبادىء الديمقراطية».
وكشف اوباما أنه بينما «1 % من السكان يكنزون أكبر قدر من الثروة، ويستحوذون على الإيرادات»، ينتشر الفقر، في المدن والأرياف، تاركاً كثيرين في أسفل درجات السلم الاقتصادي. وقال إن هذه الحالة المزمنة شكلت قناعة لدى الناس «أن اللعبة الاقتصادية قد رُتبت ضدهم»، وأن حكومتهم لا تخدم سوى الأغنياء، مما يزيد في انتشار «اللامبالاة والاستقطاب السياسي»، ويؤثر سلباً على ثقة الناس بنظام الحكم. وتوقع اوباما أن تزداد حدة «السخط والانقسام»، في السنوات القادمة، إذا لم يتم «إيجاد الفرص لكل الناس»، وإذا ظلت الطبقة العاملة تصارع من أجل «الفتات» فقط. وما يلفت النظر دعوته إلى أن يتوصل الأمريكيون من جديد إلى «ميثاق اجتماعي» لمعالجة معضلة سوء توزيع الثروة.
العنصرية والعزوف عن السياسة
ثم تحدث أوباما حول تفشي العنصرية، قائلاً إن انتخابه كأول رئيس أسود لم يُنهِ العنصرية التي ما زالت «طاغية وتشكل عامل تفرقة في المجتمع». وأشار إلى تهديد داخلي آخر يتمثل في فقدان الثقة بالسياسة وعزوف الناس المحترمة عن الاشتغال بها، أو حتى المشاركة، إذ أن «نسب المشاركة في التصويت هي الأدنى بين الدول الديمقراطية المتقدمة». وطالب بجعل الاقتراع أسهل، وتقليل نفوذ المال في السياسة، والحفاظ على قيم «الشفافية والأخلاق» و«اتباع الفطرة السليمة بدلاً من الإفراط في التزمت».
إضعاف روابط الوحدة الداخلية
ركز أوباما على «الوحدة الداخلية» للبلاد في ضوء مخاطر التفكك، بعد ما برزت أصوات تنادي بانفصال بعض الولايات، بعد فوز دونالد ترامب. ورد على ذلك مقتبساً مما قاله جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، في خطابه الوداعي، بوجوب «نبذ كل محاولة لتنفير أي جزء من البلاد عن الباقي، أو إضعاف الروابط التي تجعل منا أمة واحدة». ملمحاً إلى أقوال وتصرفات ترامب التي أدت إلى «تدني لغة الحوار السياسي» والتشكيك في وطنية من يختلف معهم سياسياً بوصفهم «أشرار حاقدين»، وإلصاق تهمة الفساد بالنظام السياسي برمته.
أوباما يتلاقى فكرياً
مع حركة «احتلوا وول ستريت»
خلاصة القول إذن، إن الرئيس باراك أوباما يخرج على شعبه، بعد 8 سنوات من تربعه على قمة السلطة، ليقول لهم إنهم يعيشون على الفتات لأن ثروة البلاد بيد 1 % من الأمريكيين فقط، وليطالب بعقد اجتماعي جديد. وكأن الذي يتحدث هنا ليس رئيس أكبر دولة رأسمالية في العالم، بل ثائر متمرد، مطارد في الجبال، في إحدى دول العالم الثالث، يقود ثورة شعبية، لتغيير نظام الحكم، من أجل أخذ الأموال من الأغنياء لإعطائها إلى الفقراء، وإعادة العدالة الاجتماعية، مع كل ما تحمله هذه الدعوة من معنى.
أقوال أوباما خطيرة جداً، وكأنه أصبح ناطقاً باسم «حركة احتلوا وول ستريت» التي بدأت في نيويورك في خريف سنة 2011، وانتشرت بلمح البصر في 70 مدينة أمريكية، وما لبثت أن انتشرت حول العالم، بعد أن دعا قادتها إلى «أن تنتفض الشعوب ضد الحكومات ورؤوس الأموال والاقتصاد»، فقامت احتجاجات في 1500 مدينة، في 20 بلداً، بنفس اللحظة.
يبدو أن أوباما لو لم يكن رئيساً للبلاد لكان قائداً لحركة «احتلوا وول ستريت»، فالأفكار التي تضمنها خطابه الوداعي، في مدينته شيكاغو، هي نفس أفكار الحركة، لكنه صاغها بأسلوبه السياسي والدبلوماسي البارع المبطن. ولا بد أنه أعطى بكلامه تحذيراً واضحاً إلى الـ 1 %، الذين بيدهم الثروة، مما سيواجهونه في المستقبل إن لم تُوزع الثروة بطريقة «أكثر عدلاً». وكأن من يتحدث هنا ليس الرئيس الـ 44 لدولة كبرى تأسست قبل 240 عاماً!
وهنا تبرز تساؤلات عديدة. فهل يريد أوباما أن يتقمص شخصية روبن هود العصر الحديث؟ أم أنه سيكون «مارتن لوثر كينغ» زمانه فيقود ثورة سلمية، لتنفيس الاحتقان، بتحسين ظروف تبعية الفقراء للأغنياء في أمريكا؟ وهو الذي وعد مؤيديه بأن يبقى حاضراً في المشهد السياسي. وهل الماضي بالنسبة له أفضل من الحاضر؟ وهل يتعظ أصحاب العقول في أمريكا؟ لنتابع ونرى.
* كاتب ومحلل سياسي أردني
سوء توزيع الثروة
قال اوباما ان بلاده مرت بظروف عصيبة كادت تعرضها للانهيار، في مطلع القرن الحادي والعشرين. وعزا ذلك إلى الوضع العالمي، وانعدام المساواة نظراً لسوء توزيع الثروة، والتغيير السكاني، وشبح الإرهاب. وقال إن هذه العوامل هددت أُسس النظام السياسي القائم. وأسهب في تشخيص المعضلة الاقتصادية قائلاً إن مستقبل البلاد يعتمد على التوصل إلى حلول مناسبة، لأن النظام سيتعطل «إذا لم يشعر كل فرد أن له فرصة اقتصادية». مضيفاً أن «انعدام المساواة الصارخ سيؤدي الى تراجع المبادىء الديمقراطية».
وكشف اوباما أنه بينما «1 % من السكان يكنزون أكبر قدر من الثروة، ويستحوذون على الإيرادات»، ينتشر الفقر، في المدن والأرياف، تاركاً كثيرين في أسفل درجات السلم الاقتصادي. وقال إن هذه الحالة المزمنة شكلت قناعة لدى الناس «أن اللعبة الاقتصادية قد رُتبت ضدهم»، وأن حكومتهم لا تخدم سوى الأغنياء، مما يزيد في انتشار «اللامبالاة والاستقطاب السياسي»، ويؤثر سلباً على ثقة الناس بنظام الحكم. وتوقع اوباما أن تزداد حدة «السخط والانقسام»، في السنوات القادمة، إذا لم يتم «إيجاد الفرص لكل الناس»، وإذا ظلت الطبقة العاملة تصارع من أجل «الفتات» فقط. وما يلفت النظر دعوته إلى أن يتوصل الأمريكيون من جديد إلى «ميثاق اجتماعي» لمعالجة معضلة سوء توزيع الثروة.
العنصرية والعزوف عن السياسة
ثم تحدث أوباما حول تفشي العنصرية، قائلاً إن انتخابه كأول رئيس أسود لم يُنهِ العنصرية التي ما زالت «طاغية وتشكل عامل تفرقة في المجتمع». وأشار إلى تهديد داخلي آخر يتمثل في فقدان الثقة بالسياسة وعزوف الناس المحترمة عن الاشتغال بها، أو حتى المشاركة، إذ أن «نسب المشاركة في التصويت هي الأدنى بين الدول الديمقراطية المتقدمة». وطالب بجعل الاقتراع أسهل، وتقليل نفوذ المال في السياسة، والحفاظ على قيم «الشفافية والأخلاق» و«اتباع الفطرة السليمة بدلاً من الإفراط في التزمت».
إضعاف روابط الوحدة الداخلية
ركز أوباما على «الوحدة الداخلية» للبلاد في ضوء مخاطر التفكك، بعد ما برزت أصوات تنادي بانفصال بعض الولايات، بعد فوز دونالد ترامب. ورد على ذلك مقتبساً مما قاله جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، في خطابه الوداعي، بوجوب «نبذ كل محاولة لتنفير أي جزء من البلاد عن الباقي، أو إضعاف الروابط التي تجعل منا أمة واحدة». ملمحاً إلى أقوال وتصرفات ترامب التي أدت إلى «تدني لغة الحوار السياسي» والتشكيك في وطنية من يختلف معهم سياسياً بوصفهم «أشرار حاقدين»، وإلصاق تهمة الفساد بالنظام السياسي برمته.
أوباما يتلاقى فكرياً
مع حركة «احتلوا وول ستريت»
خلاصة القول إذن، إن الرئيس باراك أوباما يخرج على شعبه، بعد 8 سنوات من تربعه على قمة السلطة، ليقول لهم إنهم يعيشون على الفتات لأن ثروة البلاد بيد 1 % من الأمريكيين فقط، وليطالب بعقد اجتماعي جديد. وكأن الذي يتحدث هنا ليس رئيس أكبر دولة رأسمالية في العالم، بل ثائر متمرد، مطارد في الجبال، في إحدى دول العالم الثالث، يقود ثورة شعبية، لتغيير نظام الحكم، من أجل أخذ الأموال من الأغنياء لإعطائها إلى الفقراء، وإعادة العدالة الاجتماعية، مع كل ما تحمله هذه الدعوة من معنى.
أقوال أوباما خطيرة جداً، وكأنه أصبح ناطقاً باسم «حركة احتلوا وول ستريت» التي بدأت في نيويورك في خريف سنة 2011، وانتشرت بلمح البصر في 70 مدينة أمريكية، وما لبثت أن انتشرت حول العالم، بعد أن دعا قادتها إلى «أن تنتفض الشعوب ضد الحكومات ورؤوس الأموال والاقتصاد»، فقامت احتجاجات في 1500 مدينة، في 20 بلداً، بنفس اللحظة.
يبدو أن أوباما لو لم يكن رئيساً للبلاد لكان قائداً لحركة «احتلوا وول ستريت»، فالأفكار التي تضمنها خطابه الوداعي، في مدينته شيكاغو، هي نفس أفكار الحركة، لكنه صاغها بأسلوبه السياسي والدبلوماسي البارع المبطن. ولا بد أنه أعطى بكلامه تحذيراً واضحاً إلى الـ 1 %، الذين بيدهم الثروة، مما سيواجهونه في المستقبل إن لم تُوزع الثروة بطريقة «أكثر عدلاً». وكأن من يتحدث هنا ليس الرئيس الـ 44 لدولة كبرى تأسست قبل 240 عاماً!
وهنا تبرز تساؤلات عديدة. فهل يريد أوباما أن يتقمص شخصية روبن هود العصر الحديث؟ أم أنه سيكون «مارتن لوثر كينغ» زمانه فيقود ثورة سلمية، لتنفيس الاحتقان، بتحسين ظروف تبعية الفقراء للأغنياء في أمريكا؟ وهو الذي وعد مؤيديه بأن يبقى حاضراً في المشهد السياسي. وهل الماضي بالنسبة له أفضل من الحاضر؟ وهل يتعظ أصحاب العقول في أمريكا؟ لنتابع ونرى.
* كاتب ومحلل سياسي أردني