في مشهد استثنائي وغير مسبوق، أصدرت المحكمة الإقليمية في بلد الوليد حكماً تاريخياً يُدين الإهانات العنصرية بحق لاعب كرة القدم البرازيلي «فينيسيوس جونيور»، واعتبرتها جريمة كراهية وفق المادة 510.1 (أ) من القانون الجنائي الإسباني، لم يكن هذا القرار مجرد انتصار قانوني لفرد، بل نقطة تحول في فلسفة العدالة الرياضية الأوروبية، وتجسيد لانتصار الكرامة الإنسانية على التعصب العرقي في قلب اللعبة الأكثر جماهيرية في العالم.

لطالما كانت الملاعب الأوروبية مرآة لواقع اجتماعي مختلط بين شغف المشجعين وسلوكيات عنصرية كانت تُمرّر تحت غطاء «الانفعال الجماهيري»، دون محاسبة تُذكر، ولعقود، اعتُبرت الإهانات العنصرية تجاوزات أخلاقية لا ترتقي لمستوى الجريمة، أما اليوم، فنحن أمام تحول نوعي: تجريم مباشر، وعقوبات تشمل السجن ونزع الحقوق المدنية، ومنع دخول الملاعب.

اللافت في الحكم أن العقوبة كانت مشروطة: ثلاث سنوات بلا جريمة جديدة، والمنع من دخول ملاعب الليغا، رسالة قانونية واضحة بأن الملاعب ليست ساحات للفوضى والكراهية، بل فضاء عام يخضع لحكم القانون.

بينما اكتفت المنظمات الرياضية كـ«فيفا» و«يويفا» في السابق بالشجب والغرامات الرمزية، جاء هذا الحكم الإسباني ليحوّل ملف الكراهية من ملف إداري إلى قضية جنائية، بذلك، لم تعد الرياضة معزولة عن المبادئ الحقوقية، بل صارت ساحةً للتنفيذ العملي للمواثيق الدولية، وعلى رأسها المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.»

بالمقارنة، تتبنى دول مثل إنجلترا وألمانيا قوانين عامة لمكافحة الكراهية، لكنها لم تصل بعد إلى تجريم جماهيري مباشر كما فعلت إسبانيا، هذا يفتح الباب لتوحيد الرؤية الأوروبية، ويجعل من القضاء الرياضي شريكاً فاعلاً في حماية القيم الإنسانية.

وفي السياق العربي، تبدو الحاجة ملحة لتطوير تشريعات رياضية تُجرّم خطاب الكراهية، خاصة وأن كثيرًا من الدوريات المحلية لا تزال تعتبر الإهانات مجرد تجاوزات انفعالية، المطلوب: مواءمة قوانين الرياضة مع القوانين الجنائية، انطلاقاً من أن الملاعب جزء من المنظومة القانونية للدولة، وليست استثناءً منها.

هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة جهود دولية متراكمة، أبرزها:

- اتفاقية مجلس أوروبا لمناهضة العنصرية في الملاعب (1999).

- خطط الفيفا 2020–2023 التي أولت «مكافحة التمييز» أولوية تنظيمية.

- مواثيق الاتحاد الأوروبي التي تربط التمويل الرياضي بالالتزام القيمي.

وفي هذا الإطار، يُعد مشروع «LALIGA VS» نموذجاً رائداً، إذ تمارس الرابطة دور «المدعي الخاص»، وتستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد التمييز العنصري، وتتبع مرتكبيه قانونياً.

تشير إحصائيات الاتحاد الأوروبي إلى انخفاض الحوادث العنصرية بنسبة 38٪ من 2019 في الدوريات التي اعتمدت الملاحقة القانونية، وفي إسبانيا وحدها، جرى رصد أكثر من 700 حالة تمييز خلال موسم واحد بفضل أدوات الرصد التكنولوجي.

هذا الحكم لا يُدين خمسة مشجعين فحسب، بل يعلن ميلاد عدالة رياضية جديدة، وإذا كانت الكرة دائماً مستديرة، فإن عدالة اليوم جعلتها أقرب إلى الميزان.

*إعلامية وباحثة أكاديمية