في لحظة وطنية تحمل بين طياتها رسائل صحية وحقوقية وأمنية، أعلنت البحرين عن استيفاء محافظتي الشمالية والمحرق لمعايير منظمة الصحة العالمية لاعتماد «المدن الصحية»، وفق تقييمات ميدانية دقيقة أُجريت في نوفمبر 2024 للشمالية وفبراير 2025 للمحرق، وهو إنجاز يرسخ مكانة المملكة على خارطة التنمية المستدامة عالمياً، ويعكس فلسفة الدولة في أن الحق في بيئة صحية هو جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان الأساسية، وأن جودة الحياة ليست ترفاً، بل التزاماً وطنياً وأخلاقياً تجاه المواطن والمقيم على حد سواء.

هذا الاعتماد لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة عمل منهجي قائم على 80 معياراً دولياً شملت أبعاداً صحية وبيئية واقتصادية واجتماعية، من تنظيم المجتمع وتعبئته من أجل الصحة والتنمية، إلى ضمان سلامة المياه والغذاء، وتطوير خطط الاستعداد للطوارئ، مروراً بالتعليم والتثقيف الصحي، وانتهاءً بترسيخ الشراكات بين مختلف القطاعات. هذه المعايير، حين تطبق على أرض الواقع، تعني أن المواطن البحريني في الشمالية أو المحرق يستيقظ ويعيش وينام في بيئة آمنة، حيث الهواء أنقى، والمياه أضمن، والخدمات الصحية أكثر كفاءة، وأن التنمية العمرانية تخضع لميزان الصحة والرفاه، لا لمجرد التوسع العمراني.

لكن قيمة هذا الإنجاز تكمن في أبعاده الاستراتيجية، فالمشروع لم يُدار من منظور صحي صرف، بل عبر منظومة تكاملية جمعت بين المؤسسات الخدمية والأمنية، ليصبح نموذجاً فريداً في تفاعل وزارة الداخلية مع وزارة الصحة، في شراكة تؤكد أن الأمن لا يقتصر على مكافحة الجريمة أو حماية الحدود، بل يمتد ليشمل حماية صحة المجتمع وضمان بيئة سليمة للأجيال القادمة. فمنظور الأمن الصحي هنا هو امتداد للأمن الوطني، وهو ما عبّر عنه الفريق أول الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة في تقديره لجهود المحافظتين ووزارة الصحة، وتوجيهه للمحافظة الجنوبية للسير على خطى هذه التجربة وصولاً إلى إعلان جميع محافظات البحرين مدناً صحية.

إن ما تحققه البحرين اليوم في هذا المجال يضعها في مصاف الدول التي لا تنتظر حتى تفرض عليها التحديات البيئية والصحية إجراءات طارئة، بل تبادر إلى صياغة نموذج وقائي واستباقي يحمي مواطنيها، ويعزز صورتها الدولية كدولة مسؤولة، تنطلق في نهضتها من رؤية متوازنة بين التنمية الاقتصادية وصحة الإنسان وحقوقه، فالمبادرات التي أطلقتها الشمالية والمحرق، بالتعاون مع الجهات المعنية، ليست مجرد مشاريع تحسين خدمات، بل خطوات متقنة في استراتيجية شاملة لصناعة مدن تحترم الإنسان، وتمنحه المساحة الآمنة ليعيش ويبدع، بما يحقق مقاصد التنمية المستدامة التي التزمت بها البحرين أمام المجتمع الدولي.

وعلى الصعيد المحلي، يرسل هذا الإنجاز رسالة واضحة إلى بقية المحافظات: أن طريق الاعتماد الصحي ليس حكراً على موقع جغرافي أو كثافة سكانية، بل هو نهج إداري وتنفيذي يمكن أن يحقق نقلة نوعية في جودة الحياة متى ما تضافرت الإرادة السياسية مع العمل المؤسسي والمجتمعي، وعلى الصعيد الدولي، يعزز الاعتماد من رصيد البحرين في المنظمات الأممية، ويؤكد حضورها كدولة تتعامل مع الصحة العامة بوصفها أساسًا للسلام الاجتماعي، وركيزة للثقة بين المواطن ومؤسساته، ومؤشرًا على أن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه.

إن ما تحقق في الشمالية والمحرق اليوم، إذا ما استُكمل بنفس الروح في بقية المحافظات، سيجعل من البحرين نموذجاً عربياً ملهماً في صياغة بيئة حضرية صحية وآمنة، حيث تتقاطع الجهود الأمنية والصحية في خدمة هدف واحد: صون الحياة، وحماية الحق في العيش بكرامة، وترسيخ صورة وطن يعرف أن قوة المستقبل تُبنى على سلامة الإنسان وبيئته، هذا هو جوهر الرسالة، وهذا ما يجعل الإنجاز ليس مجرد شهادة دولية على ورق، بل عقداً وطنياً جديداً بين الدولة والمجتمع، عنوانه: صحة المواطن هي أمن الوطن.

* إعلامية وباحثة أكاديمية