تعتبر العاصمة المنامة وبعدها مدينة المحرق الجميلة من أهم وأبرز مدن البحرين من حيث القيمة والمكانة والموقع والتاريخ، فهما واجهتا البلد والوجه الحقيقي لتاريخ الوطن الحديث على الرغم من أهمية بقية مناطق البحرين والتي كلها تمثل حضارة هذه الجزيرة العظيمة.
ما يحدونا للحديث عن المنامة والمحرق تحديداً هو تخلي أهالي هاتين المدينتين عن هويتهما البحرينية كلياً والهروب لمناطق سكنية أخرى وتركهما مرتعاً للأجانب وللمحلات التجارية الجامدة، حتى غدتا كمدينتين للغرباء. حين أذهب لمسقط رأسي «فريج الفاضل» لا أجد فيها من الذكريات أي شيء، حتى البيوتات العتيقة والمدارس التراثية التي تعلمنا فيها والأماكن الأثرية كلها سوِّيت بالأرض وبعضها الآخر أصبح عمارات يقطنها الكثير من الغرباء وبعض الأجانب. مع مطلع السبعينات كنا نركب «الباص» المسمى «بسالم خطر» يقذفنا من المنامة إلى منطقة «لستيشن» بالمحرق نتنزه في سوق «القيصرية» بكل أمان، وقبل غروب الشمس يعود بنا الباص إلى المنامة ونحن نسترق صوت البحر الفاصل بين العراقتين، المنامة والمحرق.
اليوم انتهى كل شيء، فالمحرق غارقة بالأجانب حتى أذنيها، فأهالي جزيرة الخير والغوص هربوا إلى مدننا الحديثة وقاموا بإعطاء مفاتيح بيوتاتهم الأثرية البحرينية الأصيلة التي تحمل عبق الآباء والأجداد والذكريات لمستأجرين مقابل مبالغ زهيدة، والبعض قام بهدم منزل طفولته العصي على الفهم الذي ناله كوَارثٍ شرعي للعقار بعد رحيل والده «الغيص» ليحوله إلى سلسلة متاجر غبية أو إلى عمارة قبيحة تدر عليه بعض الدنانير. في المنامة هرب الجميع من مناطقهم المشحونة برائحة الوطن والتاريخ إلى حيث «الفلل» الفارهة ونصف الفارهة تاركين خلفهم أجمل البيوت والقصص والذكريات، وها أنا ابن المنامة أشعر بالغربة حين أذهب لزيارة منزل والدنا الراحل يوم الجمعة، وفي آخر جمعة ركنت سيارتي بالقرب من الزاوية التي كانت تمثل لي حجر زاوية في مخيلة ذكرياتي وشقاوة طفولتي وإذ بأحد الأجانب يخرج من منزله الذي استأجره من جارنا بالمنامة ليقول لي المستأجر الآسيوي بثقة منقطعة النظير: «رفيق، شيل سيارة مال إنت من هنا»!
قصة تختصر وجع هجرة المنامة. والمحرقي يروي لي ذات التفاصيل لأزقة المحرق التي خلت من «الدشداشة والبخنق والبطُّولة» لنجد اللباس البنجابي والنقاب الآسيوي يفرض وجوده في عاصمة الثقافة العربية. نحن اليوم مطالبون بالإبقاء على ما تبقى من المتيسر من المكان والذكريات، فَبَيْعنا كل ذكرياتنا ومنازلنا القديمة يعتبر جريمة في حق تاريخ هذا الوطن، ولو كانت هنالك منذ البداية، قوانين وتشريعات صارمة حيال هذا السلوك الجشع والخاص ببيع بيوتنا الأثرية أو هدمها لما رأينا غربتنا وهي تنسكب من وجوهنا ونحن نتجول بين المنامة والمحرق. الدولة محاسبة، والمواطن محاسب، وكل من باع منزله أو حوَّله إلى عمارة لسكن العمالة الأجنبية محاسب كذلك، فهل من أمل لاسترداد رائحة أمهاتنا العزيزات حصة وخديجة وعايشة ومريم وفاطمة؟ أم أن الأمر قد انتهى؟
ما يحدونا للحديث عن المنامة والمحرق تحديداً هو تخلي أهالي هاتين المدينتين عن هويتهما البحرينية كلياً والهروب لمناطق سكنية أخرى وتركهما مرتعاً للأجانب وللمحلات التجارية الجامدة، حتى غدتا كمدينتين للغرباء. حين أذهب لمسقط رأسي «فريج الفاضل» لا أجد فيها من الذكريات أي شيء، حتى البيوتات العتيقة والمدارس التراثية التي تعلمنا فيها والأماكن الأثرية كلها سوِّيت بالأرض وبعضها الآخر أصبح عمارات يقطنها الكثير من الغرباء وبعض الأجانب. مع مطلع السبعينات كنا نركب «الباص» المسمى «بسالم خطر» يقذفنا من المنامة إلى منطقة «لستيشن» بالمحرق نتنزه في سوق «القيصرية» بكل أمان، وقبل غروب الشمس يعود بنا الباص إلى المنامة ونحن نسترق صوت البحر الفاصل بين العراقتين، المنامة والمحرق.
اليوم انتهى كل شيء، فالمحرق غارقة بالأجانب حتى أذنيها، فأهالي جزيرة الخير والغوص هربوا إلى مدننا الحديثة وقاموا بإعطاء مفاتيح بيوتاتهم الأثرية البحرينية الأصيلة التي تحمل عبق الآباء والأجداد والذكريات لمستأجرين مقابل مبالغ زهيدة، والبعض قام بهدم منزل طفولته العصي على الفهم الذي ناله كوَارثٍ شرعي للعقار بعد رحيل والده «الغيص» ليحوله إلى سلسلة متاجر غبية أو إلى عمارة قبيحة تدر عليه بعض الدنانير. في المنامة هرب الجميع من مناطقهم المشحونة برائحة الوطن والتاريخ إلى حيث «الفلل» الفارهة ونصف الفارهة تاركين خلفهم أجمل البيوت والقصص والذكريات، وها أنا ابن المنامة أشعر بالغربة حين أذهب لزيارة منزل والدنا الراحل يوم الجمعة، وفي آخر جمعة ركنت سيارتي بالقرب من الزاوية التي كانت تمثل لي حجر زاوية في مخيلة ذكرياتي وشقاوة طفولتي وإذ بأحد الأجانب يخرج من منزله الذي استأجره من جارنا بالمنامة ليقول لي المستأجر الآسيوي بثقة منقطعة النظير: «رفيق، شيل سيارة مال إنت من هنا»!
قصة تختصر وجع هجرة المنامة. والمحرقي يروي لي ذات التفاصيل لأزقة المحرق التي خلت من «الدشداشة والبخنق والبطُّولة» لنجد اللباس البنجابي والنقاب الآسيوي يفرض وجوده في عاصمة الثقافة العربية. نحن اليوم مطالبون بالإبقاء على ما تبقى من المتيسر من المكان والذكريات، فَبَيْعنا كل ذكرياتنا ومنازلنا القديمة يعتبر جريمة في حق تاريخ هذا الوطن، ولو كانت هنالك منذ البداية، قوانين وتشريعات صارمة حيال هذا السلوك الجشع والخاص ببيع بيوتنا الأثرية أو هدمها لما رأينا غربتنا وهي تنسكب من وجوهنا ونحن نتجول بين المنامة والمحرق. الدولة محاسبة، والمواطن محاسب، وكل من باع منزله أو حوَّله إلى عمارة لسكن العمالة الأجنبية محاسب كذلك، فهل من أمل لاسترداد رائحة أمهاتنا العزيزات حصة وخديجة وعايشة ومريم وفاطمة؟ أم أن الأمر قد انتهى؟