لا شك في أن مفهوم سيادة الدول قد تغير بشكل كبير خلال العشرين سنة الماضية خاصة على إثر تطور أهمية عمل التجمعات الإقليمية والدولية وظهور وانتشار المنظمات العالمية المتخصصة سواء في المجالات المالية والمصرفية أو في مجال التجارة الدولية أو في مجال العلاقات السياسية العالمية. وكما هو الحال في المجال المصرفي والتجاري والاقتصادي العالمي فإن الدول التي انضمت إلى التجمعات الإقليمية والدولية قد قبلت طواعية التنازل عن القرار السيادي الوطني في مقابل الانسجام مع بقية دول العالم في الممارسات المصرفية والتجارية والاقتصادية الدولية.
فالنشاط المصرفي اليوم في أي دولة يخضع أساساً لمعايير دولية أكثر منه قرارات سيادة وطنية. فمعيار كفاية رأسمال المصارف في أي دولة لا يحدده البنك المركزي الخاص بهذه الدول بل يتحدد وفقاً لمؤسسات وهيئات دولية متخصصة «بازل» تشترك في عضويتها معظم إن لم نقل جميع دول العالم. هذا ينطبق أيضاً على التجارة الدولية حيث إن جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية قد ارتضت العمل في مجال التجارة الدولية بالمعايير والإرشادات التي وضعتها منظمة التجارة العالمية سواء في مجال الحواجز الجمركية أو في مجال سياسة الإغراق أو غيرها. وبالتالي تكون قد تنازلت عن قرار السيادة الوطنية في هذا المجال. ولذلك فإن القبول بالانضمام إلى أية تجمعات إقليمية كانت أم دولية سواء في المجال المالي والمصرفي أو التجاري والاقتصادي يتطلب بطبيعة الحال التنازل على الأقل عن جزء من السيادة الوطنية في سبيل المصلحة المشتركة لهذه التجمعات. هذا ينطبق على المجموعة الأوروبية التي حددت معايير تلتزم بها الدول الأعضاء في المجموعة سواء على الصعيد المالي والتجاري أو حتى السياسي في شكل سياسة خارجية منسقة إن لم تكن موحدة. لا بل إن هناك شعوراً بأن إجراءات التنسيق التي تم اتخاذها حتى الآن غير كافية وينبغي عمل المزيد لضمان نجاح مساعي التكامل التي تنشدها المجموعة وهذا يترتب عليه مزيد من التنازل عن قرارات السيادة الوطنية لصالح المواقف المشتركة، هذا إذا كانت الدول جادة في التوصل إلى درجة أكبر من التكامل والانسجام. وما ينطبق على الجوانب المالية والمصرفية والتجارية والاقتصادية ينطبق كذلك على الجانب السياسي حيث أصبحت الهموم السياسية اليوم هموماً مشتركة لا يمكن التصدي لها على صعيد كل دولة على حدة. فقضايا الإرهاب وحقوق الإنسان وحل الصراعات والنزاعات الدولية يتطلب مزيداً من التنسيق والانسجام في التحركات السياسية والدبلوماسية وإلا ظلت هذه النزاعات والصراعات ضحية تناقضات وسياسات الدول المنفردة التي تتنافس على كسب النفوذ والمصالح على حساب هذه الصراعات. وكل هذه التطورات في السلوك والممارسات سواء المصرفية أو المالية أو التجارية وحتى السياسية تقودنا إلى نتيجة مفادها أنه ضمن توجه التجمعات الإقليمية والدولية في مزيد من التنسيق والتكامل فإنه لا بد من القبول بالتنازل على الأقل عن جزء من السيادة الوطنية لصالح السيادة المشتركة. وهذا المبدأ لا يتعارض بالضرورة مع الاحتفاظ بتنوع الأفكار والآراء ضمن المتفق عليه من الخطوط العريضة للسياسة المشتركة. إن تنوع الأفكار والآراء هو مطلوب لتجنب الرتابة ولإتاحة الفرصة للمبادرات والأفكار المبدعة من خارج الصندوق طالما لا تتنافر ولا تهدم التوجه العام للمجموعة المعنية بهذه الممارسات. وهنا يكمن التحدي أمام نجاح التجمعات الإقليمية والدولية في كيفية التوفيق بين ضمان حد أدنى من سيادة القرار الوطني وبين الحفاظ على الانسجام والالتزام بالتوجه العام لسياسة المجموعة الإقليمية المعنية. إن مثل هذه التحديات ليست مقتصرة على مجموعة إقليمية دون غيرها بل إنها تنطبق على مختلف التجمعات التي تحاول التقدم في تحقيق مزيد من التكامل من ناحية وبين حرص أفراد المجموعة على التمسك بسيادة القرار الوطني من ناحية أخرى. إن المجموعة الأوروبية وخروج بريطانيا من هذه المجموعة يعتبر مثالاً آخر على مثل هذا التحدي الذي يواجه التجمعات الإقليمية. وفي الواقع وبغض النظر عن خروج بريطانيا فإن تحدي التوفيق بين النزعات الوطنية وتحقيق مزيد من التكامل ضمن المجموعة الأوروبية كان حاضراً بشكل واضح وإن تلاشى بعض الشيء على إثر فوز الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون الذي أعطى الأمل في نجاح التجمع الأوروبي في تحقيق مزيد من التكامل والتنسيق المشترك. وكما يبدو فإن القبول بالانضمام إلى أي تجمع إقليمي أو دولي يقتضي التنازل على الأقل عن جزء من سيادة القرار الوطني لصالح تحقيق أهداف المجموعة في التكامل والانسجام سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي ومن الصعب وفقاً لذلك تخيل الوضع الذي يمكن الجمع فيه بين عضوية مجموعة من الدول أو عضوية مؤسسات دولية وما بين الحفاظ على كامل سيادة القرار الوطني، حيث إن التطورات الأخيرة سواء على الساحة الإقليمية أو الدولية تجعل من مبدأ سيادة القرار الوطني أمراً يحتاج اليوم إلى الكثير من إعادة النظر.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
فالنشاط المصرفي اليوم في أي دولة يخضع أساساً لمعايير دولية أكثر منه قرارات سيادة وطنية. فمعيار كفاية رأسمال المصارف في أي دولة لا يحدده البنك المركزي الخاص بهذه الدول بل يتحدد وفقاً لمؤسسات وهيئات دولية متخصصة «بازل» تشترك في عضويتها معظم إن لم نقل جميع دول العالم. هذا ينطبق أيضاً على التجارة الدولية حيث إن جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية قد ارتضت العمل في مجال التجارة الدولية بالمعايير والإرشادات التي وضعتها منظمة التجارة العالمية سواء في مجال الحواجز الجمركية أو في مجال سياسة الإغراق أو غيرها. وبالتالي تكون قد تنازلت عن قرار السيادة الوطنية في هذا المجال. ولذلك فإن القبول بالانضمام إلى أية تجمعات إقليمية كانت أم دولية سواء في المجال المالي والمصرفي أو التجاري والاقتصادي يتطلب بطبيعة الحال التنازل على الأقل عن جزء من السيادة الوطنية في سبيل المصلحة المشتركة لهذه التجمعات. هذا ينطبق على المجموعة الأوروبية التي حددت معايير تلتزم بها الدول الأعضاء في المجموعة سواء على الصعيد المالي والتجاري أو حتى السياسي في شكل سياسة خارجية منسقة إن لم تكن موحدة. لا بل إن هناك شعوراً بأن إجراءات التنسيق التي تم اتخاذها حتى الآن غير كافية وينبغي عمل المزيد لضمان نجاح مساعي التكامل التي تنشدها المجموعة وهذا يترتب عليه مزيد من التنازل عن قرارات السيادة الوطنية لصالح المواقف المشتركة، هذا إذا كانت الدول جادة في التوصل إلى درجة أكبر من التكامل والانسجام. وما ينطبق على الجوانب المالية والمصرفية والتجارية والاقتصادية ينطبق كذلك على الجانب السياسي حيث أصبحت الهموم السياسية اليوم هموماً مشتركة لا يمكن التصدي لها على صعيد كل دولة على حدة. فقضايا الإرهاب وحقوق الإنسان وحل الصراعات والنزاعات الدولية يتطلب مزيداً من التنسيق والانسجام في التحركات السياسية والدبلوماسية وإلا ظلت هذه النزاعات والصراعات ضحية تناقضات وسياسات الدول المنفردة التي تتنافس على كسب النفوذ والمصالح على حساب هذه الصراعات. وكل هذه التطورات في السلوك والممارسات سواء المصرفية أو المالية أو التجارية وحتى السياسية تقودنا إلى نتيجة مفادها أنه ضمن توجه التجمعات الإقليمية والدولية في مزيد من التنسيق والتكامل فإنه لا بد من القبول بالتنازل على الأقل عن جزء من السيادة الوطنية لصالح السيادة المشتركة. وهذا المبدأ لا يتعارض بالضرورة مع الاحتفاظ بتنوع الأفكار والآراء ضمن المتفق عليه من الخطوط العريضة للسياسة المشتركة. إن تنوع الأفكار والآراء هو مطلوب لتجنب الرتابة ولإتاحة الفرصة للمبادرات والأفكار المبدعة من خارج الصندوق طالما لا تتنافر ولا تهدم التوجه العام للمجموعة المعنية بهذه الممارسات. وهنا يكمن التحدي أمام نجاح التجمعات الإقليمية والدولية في كيفية التوفيق بين ضمان حد أدنى من سيادة القرار الوطني وبين الحفاظ على الانسجام والالتزام بالتوجه العام لسياسة المجموعة الإقليمية المعنية. إن مثل هذه التحديات ليست مقتصرة على مجموعة إقليمية دون غيرها بل إنها تنطبق على مختلف التجمعات التي تحاول التقدم في تحقيق مزيد من التكامل من ناحية وبين حرص أفراد المجموعة على التمسك بسيادة القرار الوطني من ناحية أخرى. إن المجموعة الأوروبية وخروج بريطانيا من هذه المجموعة يعتبر مثالاً آخر على مثل هذا التحدي الذي يواجه التجمعات الإقليمية. وفي الواقع وبغض النظر عن خروج بريطانيا فإن تحدي التوفيق بين النزعات الوطنية وتحقيق مزيد من التكامل ضمن المجموعة الأوروبية كان حاضراً بشكل واضح وإن تلاشى بعض الشيء على إثر فوز الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون الذي أعطى الأمل في نجاح التجمع الأوروبي في تحقيق مزيد من التكامل والتنسيق المشترك. وكما يبدو فإن القبول بالانضمام إلى أي تجمع إقليمي أو دولي يقتضي التنازل على الأقل عن جزء من سيادة القرار الوطني لصالح تحقيق أهداف المجموعة في التكامل والانسجام سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي ومن الصعب وفقاً لذلك تخيل الوضع الذي يمكن الجمع فيه بين عضوية مجموعة من الدول أو عضوية مؤسسات دولية وما بين الحفاظ على كامل سيادة القرار الوطني، حيث إن التطورات الأخيرة سواء على الساحة الإقليمية أو الدولية تجعل من مبدأ سيادة القرار الوطني أمراً يحتاج اليوم إلى الكثير من إعادة النظر.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي