ما أصعب هذا الزمان الذي نعيش فيه، زمان تملؤه ضغوط الحياة حتى باتت كلمة «الضغوط» كلمة يتداولها الصغير قبل الكبير، ويعاني منها الجميع، مشاكل الحياة ومسؤولياتها تكثر، والمهام الملقاة على عاتق الصغير والكبير تزداد تعقيداً، والعالم من حولنا يعج بالدماء والدمار، فالأخبار تكاد تقتصر على أخبار القتل والدمار والفساد، وحتى الفنانين تكاد تنضب قريحتهم عن إنتاج أعمال كوميدية كما كان يفعل أسلافهم، فافتقدنا ملاذاً ننسى من خلاله أحزاننا، بتنا نبحث عن الابتسامة ونسرق الضحكة، وباتت السعادة حلم بعيد المنال، بدأنا نعاني من الأمراض الناتجة عن الضغوط، فانتشرت حتى بتنا نشك أنها عدوى تنتقل بين الصغار والكبار، أو وباء يتعذر السيطرة عليه، ونشر الأطباء قائمة طويلة تضم العشرات وربما المئات من الأمراض الناجمة عن الضغوط النفسية: أمراض القلب، أمراض القولون، وأمراض المعدة، بل وحتى بعض الأمراض الجلدية مثل حب الشباب وتساقط الشعر ناهيك عن الأمراض والمشاكل النفسية الناتجة عن الضغوط مثل الاكتئاب، والقلق، والقائمة تطول حتى يكاد يتعذر علينا حصرها.

بل إن صغار السن بدأوا يعانون من الضغوط النفسية حتى أنك لتستغرب أن يصاب صبية صغار بمرض القولون العصبي ، أوأمراض المعدة، ونعجب أشد العجب عندما نسمع عن شباب يصابون بجلطات في القلب أو في الرجل أو في أي مكان، جميعنا أبدعنا في وصف المشكلة، عرفنا أسباب الضغوط، وعرفنا نتيجتها، لكننا عجزنا عن وضع الحلول.

دعونا نقلب صفحات التاريخ ونعود بها للوراء لنقارن أحوال حياة أسلافنا بأحوالنا حياتنا اليوم، فوسائل المواصلات المريحة بل والمرفهة ننعم بها، وأجهزة التبريد التي تحيل صيفنا لربيع أو شتاء حتى نشعر أن اجدادنا يغبطوننا وهم في قبورهم، والمواد الغذائية المتاحة، والبيئة الصحية المهيئة فلا أوبئة تحصد الأرواح كمرض الجدري والطاعون وغيرها والأدوية والمستشفيات الميسرة، أما الأعمال التي نقوم بها لكسب الرزق فحدث ولا حرج، فغالبيتنا ينعم بوظائف مكتبية، فلا صراع مع أمواج البحر لينتزع ما في بطنه من خيرات ولا تحدي لصخور الأرض لينبت من بين حبيبات ترابها الزرع، ولا مغامرات في الغابات لتصل أيدينا لخيراتها، ناهيك عن وسائل المتعة والمرح التي تغزو منازلنا. عذراً عزيزي القارئ سأطلب منك أن تكمل المقارنة فأنا أدرك أن المقارنة طويلة، وإن كنت أتوقع سلفاً أن نتيجة المقارنة وهي أننا نعيش زمناً رغداً ومع ذلك نشكو من الضغوط النفسية.

نعم تعالت الشكاوى من الضغوط النفسية، فاغتنم الفرصة بعض المدربين وبدأوا يروجون لبرامج تدريبية لكيفية التعامل مع هذه الضغوط، والتدريب على فنون الاسترخاء، وكيف نستطيع أن نسعد أنفسنا وكيف نتخلص من الضغوط، وإن كنت أتساءل بعد المقارنة التي عقدنها بين ظروف حياة أسلافنا وظروف حياتنا، أيوجد ضغوط في حياتنا أم أن الضغوط نحن من ابتدعناها حتى أصبحت ألد أعدائنا؟

نعم نحن نعيش في رغد مقارنة بمعيشة أسلافنا ولكننا نشعر بالضغوط، لأننا نرفض أن نتغافل عن ما يزعجنا ويؤذينا، نرفض أن نتغافل عن أخطاء من حولنا ونستنكر أن يلحظ الأخرون أخطاءنا، وكأن شغلنا الشاغل البحث عن الضغوط، شغلنا أنفسنا بأخطاء غيرنا ونسينا ما قاله أجدادنا: من راقب الناس مات هماً، فهم يدركون أن مراقبة أحوال الناس تفوق طاقة البشر لذا لم يكلفنا الله بها فهو العادل الذي يحاسب عباده، أصبحنا نسعد باكتشاف أخطاء غيرنا وتقصيرهم مهما كانت صغيرة ولا نتغاضى عنها وننسى قول الشاعر:

ليس الغبــي بســيد فـي قومـــه

لكن ســيد القــوم المتغابــــي

فمن رجاحة العقل ألا نشغل أنفسنا بصغائر الأمور وننزهها عن الانشغال بما لا حاجة لنا فيه، قال رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

نحن نشعر بالضغوط لأننا أصبحنا نتغافل عن ما بأيدينا من نعم وتظل أعيننا ترصد ما بيد الآخرين من نعم، لم نعد نسعد بما أنعمه الله علينا، فكم نتذمر من عملنا مع أنه كان غايتنا يوماً ما، ونسخط على أبنائنا مع أنهم زينة حياتنا الدنيا، ونستاء من أشكال أجسادنا مع أن الله مَنّ علينا بالصحة، ونحزن لأن منزلنا ليس بأكبر ولا أفضل منزل بالحي مع أن فيه كل احتياجاتنا، نقمنا على كل ما لدينا ورجونا كل ما بيد غيرنا.

أنا لست بطبيبة ولن أدعي الطب لكنني أدرك أننا حينما نحيا متغافلين عن صغائر الأمور سنلقي بغالبية الأدوية التي نتناولها في صندوق القمامة، فالصيدلية الحقيقية في نفوسنا، لا نحتاج لمدرب احترافي يعلمنا كيف نتغافل ولكن نحتاج أن ننهى بعضنا عن الاشتغال بغيرنا حتى تصبح ثقافة المجتمع، وأن نربي أبناءنا على عدم التدخل في شؤون الغير والتجاوز عن أخطاء الغير ونكون قدوة لهم، معادلة بسيطة وسهلة لكن قد تشق علينا أحياناً، وأختم حديثي بعبارة، إن أصعب الاكتشافات هو اكتشاف ما تعج به نفوسنا.. ودمتم أبناء وطني سالمين.